إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 31 ديسمبر 2018

أزمة الحرية الأكادديمية و هجرة الكفاءات العربية




أزمة الحرية الأكاديمية وهجرة الكفاءات العربية

أ.د جهينة سلطان سيف العيسى

مدخل

   تتفق المجتمعات الدولية المتقدمة على أن الجامعة مجتمع للعلماء  لها مطلق الحرية في السعي وراء المعرفة دون تدخل لا مبرر له من أية جهة ،  و أن كل جامعة لديها قوانينها و لوائحها الخاصة وتعليماتها التي تنص على تحديد وظائف الأجهزة المختلفة في مؤسستها كمجالس الأمناء و الجامعة و الكليات و الأقسام. و في الجامعات ذات المستوى العالمي، يشارك الأكاديميون كمواطنين أحرار داخل المجتمع وكخبراء في مجالات عملهم لتقديم الخبرة من دون رقابة او محاسبة.
   فينص القانون الدولي لحقوق الإنسان والصادر عام 1948 والقانون الدولي CESCR الصادر في عام 1966 في ( المادة 13) أن "  الحرية الأكاديمية في الجامعة هي من حق الأساتذة والطلبة كأفراد وكمجموعات.. و أن يكون لهم الحرية  في التعلم والبحث ونشر الأفكار عبر المناقشة الحرة والكتابة وكل أنواع الفنون، وكذلك الحق في نقد إدارة المؤسسة التعليمية بدون الخوف من أي اضطهاد أو عقاب " ، وينص الجزء الثاني من المادة 13 علي أنه  " لا بد أن تدار الجامعات كمؤسسات حرة مستقلة بعيدة عن النفوذ الحكومي " . وتحتم هذه المادة أن يحافظ  و يحترم الأكاديميون علي هذه الحرية وعلي المؤسسات أن تتعامل بشفافية كاملة مع كل الأمور و القضايا  الجامعية  بما فيها الحريات الأكاديمية .
    وقد أتضح  أن الحريات الأكاديمية في الجامعات والمؤسسات البحثية  في العالم العربي تتعرض لأشكال  مختلفة من الانتهاكات، ابتداء بعمليات القمع والاعتقال التي يتعرض لها الكثير من أعضاء هيئات التدريس والباحثين، مرورا بالقيود الحكومية والقانونية والإدارية التي تحد من الحريات الأكاديمية في العديد من المؤسسات وتقييد بعض التخصصات العلمية، و إلى الرقابة التي تضعها بعض هيئات المجتمع غير الرسمية أمام بعض القضايا التي يشار إليها اصطلاحا بخط أحمر ، إضافة الى صور التمييز التي يتعرض لها بعض الأكاديميين والطلاب داخل أسوار الجامعة، واستغلال الأكاديميين من قبل السلطات الحاكمة بغرض تبرير سياسات معينة وإضفاء السمة العلمية عليها، وانتهاء بما صار يعرف في بعض أدبيات منظمات حقوق الإنسان "بالرقابة الذاتية"  لأعضاء هيئات التدريس بمعنى عدم  الخوض في الأمور التي تعترض عليها الحكومات أو بعض مؤسساتها .
وقد ترتب على غياب الحريات الاكاديمية هجرة مئات الآلاف من العقول والعلماء  العرب إلى الخارج وحرمان مجتمعاتهم من خبراتهم وأبحاثهم و مساهماتهم في التنمية ، فحسب  تقرير التنمية البشرية للعام 2002 هناك أكثر من مليون مهني عربي يعملون في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
و تعد ظاهرة هجرة الكفاءات العربية نزيف تعاني منها التنمية في الوطن العربي منذ عدة عقود. و نالت هذه الظاهرة اهتمام الباحثين و الدارسين الاجتماعيين  و الاقتصاديين ،       و كذلك بعض المسئولين عن التنمية ، و عقدت الندوات        و المؤتمرات منذ الثمانينيات من القرن العشرين. ونتج عنها تحليل عميق للظاهرة و دوافعها و تحديد الجوانب السلبية   و الايجابية لها وكان من أسبابها المباشرة غياب الحرية الأكاديمية .
تتناول هذه الورقة موضوع هجرة الكفاءات العربية و علاقتها بالحرية الأكاديمية الإشكالية باعتبارها ظاهرة اجتماعية سياسية أسبابا و نتائجا، ومحاولة اقتراح بعض الآليات التي تمكن المجتمعات العربية الاستفادة من الكفاءات المهاجرة في التنمية المستدامة.
المفاهيم الأساسية :
1-              الحرية الأكاديمية:
ظهر مفهوم الحرية الأكاديمية  تاريخيا كرد فعل على الهيمنة التي كانت تفرضها الكنيسة خلال القرون الوسطى على الحياة العامة والحجر الذي كانت تمارسه ضدّ الفن والعلم والاجتهاد في مختلف المجالات .و  تشير الكثير من الدراسات والأبحاث إلى أن أولى معالم الحرية الأكاديمية برزت مع تأسيس جامعة لايدن الهولندية في سنة 1575
فتعرف الحرية الأكاديمية بأنها " حرية أولئك الأشخاص المؤهلين علميا في البحث عن الحقيقة و اكتشافها و نشرها و تعليمها وفق رؤيتهم التي لا تخضع لأي سيطرة أو سلطة غير منهجية الطريقة في البحث العلمي " (1). و يعرف إعلان ليما الصادر عام 1988 الحرية الأكاديمية بأنها  "  حرية أعضاء المجتمع الجامعي في متابعة و تطويرها ، و تمويلها من خلال البحث و الدراسة و المناقشة و التوثيق و الانتاج و الابداع و التدريس عن طريق المحاضرات و الكتب " ( 2) . وأضحت الحرية الأكاديمية عرفا متداولا ضمن ممارسات الأنظمة التعليمية في البلدان الديمقراطية.
 لا يمكن الحديث عن الحريات الأكاديمية بمعزل عن الحريات العامة في أي مجتمع، وبالتالي بمعزل عن مجموعة الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فطيلة النصف القرن الأخير تعرضت مؤسسات التعليم العالي في البلدان العربية إلى التوظيف السياسي واستُغلت كفضاء للتأطير الأيديولوجي.
وفي الواقع، تمثل أزمة البحث العلمي مجالاً مهماً للعديد من الإشكاليات الرئيسية، مثل موقع البحث في خريطة اهتمامات السلطة والمسؤولين والمشرفين على التعليم العالي والبحث العلمي ،  علاقة السلطة في العالم العربي بالبحث العلمي وعلاقة البحث العلمي بصناعة القرار، وعلاقة الدول العربية بالأدمغة المهاجرة والكفاءات العلمية العربية الموزعة في مختلف أنحاء العالم، وماذا فعلت الحكومات العربية لاستقطاب هذه الكفاءات أو على الأقل الاستفادة منها ؟
و تقضي الحرية الأكاديمية بتحرّر الباحث من كل الشروط والضغوطات المختلفة التي تقيد أعماله البحثية ونتائجها وتؤثر على موضوعيته في هذا الشأن،  التي تقوم على حرية التدريس والبحث، وحق الباحث في ممارسة التفكير والتحليل والنقد والقيام بمختلف المبادرات المرتبطة بهذا الشأن؛ بكل حرية و استقلالية
فالحرية الأكاديمية، تعنى حرية الأعضاء الأكاديميين، أفرادا أو جماعات، في متابعة المعرفة وتطويرها وتحسينها والاستفادة منها، من خلال البحث والدراسة والمناقشة والتوثيق والإنتاج والخلق و الابداع والتدريس وإلقاء المحاضرات والتأليف .
أما الاستقلال فيعنى استقلال الجامعات عن الدولة وغيرها من قوى المجتمع، وتقوم بصنع قراراتها المتعلقة بسير العمل الداخلي فيها وبميزانيتها وإداراتها، وإقرار سياساته التعليم والبحث والإرشاد وغيرها من الأنشطة ذات الصلة فيها . فالاستقلال هو درجة من الحكم الذاتي لازمة  ضرورية حتى تتمكن مؤسسات التعليم العالي من اتخاذ القرارات بفعالية بالنسبة للعمل الأكاديمي ومعاييره وإدارته، وما يرتبط به من أنشطة و فعاليات ، فالحرية الأكاديمية شرط مسبق أساسي لوظائف التعليم والبحث والإدارة والخدمات التي تسند إلى الجامعات وغيرها من مؤسسات التعليم العالي. ولجميع أعضاء المجتمع الحق في الاضطلاع بوظائفهم دون تمييز ودون خشية التدخل أو القهر من جانب الدولة أو أي جهة آخري.
و من هنا فإن جميع الجامعات المتقدمة في العالم الغربي قد عملت على تضمين قوانينها ، و أنظمتها ، ما يكفل لعضو هيئة التدريس حريته الفكرية ، دون تدخل من أي جهة غير أكاديمية ، و بخاصة الجماعات الضاغطة ، فلا يمكن أن تتحقق الحرية الأكاديمية إلا في جو ديمقراطي يتحرر فيه الساسة من الحرص على التدخل في كل جوانب الحياة ، و بذلك بشعر الإنسان الأكاديمي أن قادر على الإبداع و مهيأ للعطاء  و البناء الخلاق بلا قيود ، أو حساسيات اجتماعية أو سياسية أو دينية أو اقتصادية او ثقافية  (3 ).

2-      هجرة الكفاءات :
 نبدأ بطرح تساؤلات حول المفهوم، فهل هو ” هجرة الكفاءات ” أو هجرة العقول ”        أو ” استنزاف الكفاءات ” أو ”استنزاف العقول"، أو ” سرقة العقول ” أو ”استقطاب العقول ”  أو ”إهدار العقول"، أو " هجرة الأدمغة "  و غيرها من المفاهيم التي اختلف حولها علماء الاجتماع  و الاقتصاد و السياسة ، كل وفق تخصصه  إلا أن جميع هذه المفاهيم تحمل المعنى ذاته .
فتعرف الموسوعة البريطانية ” هجرة العقول ” بأنها ” انتقال أشخاص تلقوا تعليما جامعيا أو مهنيا، اختاروا أن يغيروا البلد أو المجال الاقتصادي عامه من أجل رفع رواتبهم أو ظروف عيشهم " (4) أما هجرة الأدمغة فهو مصطلح يطلق على هجرة العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم من بلد إلى آخر طلباً لرواتب أعلى أو التماساً لأحوال معيشية أو فكرية أفضل.
و قد ابتدعت الجمعية الملكية البريطانية مفهوم «هجرة الأدمغة» لوصف هجرة العلماء من المملكة المتحدة إلى الولايات المتحدة وكندا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الميلادي (5 ).
أما منظمة التعاون و التنمية الدولية فهي تميز بين مفهوم ” تبادل العقول ”   و مفهوم  ” إهدار العقول ” (6)، باعتبار أن تبادل العقول أمر طبيعي ناجم عن تفاعل الحضارات   و حوار الثقافات  و حين يكون له اتجاه واحد يصبح بالنسبة للبلد المصدر هو ما يطلق عليه ب ” هجرة للعقول “.
في حين أن منظمة اليونسكو تعرفه بأنه ” شكل من أشكال التعاون / التبادل العلمي الشاذ  أو غير السليم بين الدول، حيث يتميز بتدفق هجرة العلماء في اتجاه واحد نحو الدول المتقدمة ” (7 ).
إذن يمكن أن نعتبر ” هجرة العقول ”هي هجرة الكفاءات و الخبرات، و التي تشكل واحدة من أبرز  القضايا حضورا على قائمة القضايا الاجتماعية   و السياسية و الاقتصادية التي تواجه المجتمعات العربية و التي تؤثر على التنمية المستدامة  تأثيرا مباشرا.
و تعد هذه الظاهرة من اخطر الظواهر التي تتعرض لها المجتمعات العربية، فمضمون الظاهرة هو إفراغ المجتمعات العربية من مواردها البشرية و فنيها  و علمائها القادرين على إحداث التنمية المستدامة. و الذي بدوره يترتب عليه زيادة حدة التخلف من جانب،    و من جانب آخر يزيد من الاستعانة و الاعتماد على الخبرات الأجنبية في التنمية الذي يشكل هدرا إضافيا على الاقتصاد الوطني  و تبعية سياسية وثقافية مستمرة تزيد من حدة التخلف.

أزمة الحرية الأكاديمية
تؤكد عدة قوانين وتشريعات على أهمية الحرية الأكاديمية و الحماية الدولية لها وضرورة حمايتها، فالمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان  تؤكّد على أن التربية ينبغي أن تهدف «إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية»،
كما أن المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تؤكد على أن الدول الأطراف «تتعهد في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي»(8 ). إن الحرية الأكاديمية هي جزء من الحقوق والحريات الأساسية التي تكفلها الدساتير والمواثيق والقوانين الدولية؛ وبذلك تعني الحرية في ممارسة التفكير والتعبير والاجتهاد والاجتماع والتنظيم في إطار مجموعات ومراكز علمية من خلال تأسيسها أو الانضمام إليها، والحق في إبداء النقد والتعبير عن الرأي بحرية، وتناول مختلف القضايا المجتمعية دون تضييق من أي جهة كانت، و ممارسة مهام التعليمية بحرّية في جوّ يطبعه احترام تعدد الأفكار واختلاف وجهات النظر، وعدم المساس بحرّية الباحث في اختيار مواضيع البحث وعدم التضييق على تعميم ونشر نتائجها بكل موضوعية وأمانة علميتين، وضرورة عدم التضييق على الباحثين خلال مشاركاتهم في مختلف المؤتمرات والندوات العلمية في الخارج والداخل وتوفير الإمكانيات اللازمة لذلك، والحق في الحصول إلى المعلومات ، سواء على مستوى توفير المعطيات والمعلومات الإحصائية والمكتبات والأنترنت والسماح بالوصول إليها ، إلى جانب تجاوز الرقابة على نشر الكتب والمطبوعات الأكاديمية  .
و للحريات الأكاديمية  في الدول الحديثة أبعاد ثلاثة رئيسة تتعلق بالعمل الأكاديمي، أولها يضم كل الحريات ذات الصلة بالعمل البحثي والأكاديمي، مثل حريات الفكر والرأي والاجتماع والتنقل وإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العامة وحلقات النقاش والمشروعات البحثية والحصول على المعلومات واستخدامها ونشر وتوزيع الأعمال الفكرية والعلمية.
أما البعد الثاني فيشمل حرية الجامعات في إدارة شؤونها المالية والإدارية بصورة مستقلة، وتحديد مناهج ومضامين التعليم الملائمة، وتعيين من يتمتعون بالكفاءة والمهارة اللازمة لتحقيق الأهداف التي من أجلها قامت الجامعة.
ويتضمن البعد الثالث مراعاة معايير النزاهة الأكاديمية، والأمانة العلمية والالتزام بالحياد وحماية الطلبة من أي عمليات قد تستهدف التلقين الأيديولوجي أو المذهبي أو الطائفي أو الحزبي.
وقد حاول الكثير من المدافعين عن الحريات الأكاديمية تأصيل هذه الحريات وإدراجها ضمن حقوق الإنسان، وعقدت عدة مؤتمرات وحلقات دراسية أنتجت مجموعة من المواثيق الدولية، منها ميثاق حقوق وواجبات الحرية الأكاديمية  الصادر عن الرابطة الدولية لأساتذة ومحاضري الجامعات عام 1982، والميثاق الأعظم للجامعات الأوروبية الصادر عن مؤتمر الجامعات الأوروبية ورؤسائها في بولونيا الإيطالية عام 1988،
وإعلان ليما للحرية الأكاديمية واستقلال  مؤسسات التعليم العالي الصادر عن اجتماع الهيئة العامة للخدمة الجامعية العالمية في أكبيرو في سبتمبر/أيلول 1988. وهناك إعلانات إقليمية مثل الإعلانين الأفريقيين في العام 1990 (إعلان دار السلام في تنزانيا، وإعلان كامبالا بأنغولا)، وإعلان بولندا 1993. وفي العالم العربي صدر إعلان عمّان للحريات الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي عام 2004.
و قد أعلن مؤتمر الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية الذي انعقد بدعوة من مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان في عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية يومي 15 و 16 كانون الأول 2004(9)، بمشاركة نخبة من المفكرين ورؤساء وأساتذة الجامعات وباحثين من مختلف الجامعات العربية المبادئ الآتية:
1-  ضرورة إلغاء الوصاية السياسية عن المجتمع الأكاديمي، والتزام السلطات العمومية باحترام استقلال المجتمع العلمي بمكوناته الثلاثة من أساتذة وطلبة وإداريين، وتجنيبه الضغوط الخارجية والتدخلات السياسية التي تسيء إلى حرية الهيئات الأكاديمية مما يوفر شرطاً ضرورياً لنجاح العملية التعليمية وتطور البحث العلمي.
2-  تشمل الحريات الأكاديمية حق التعبير عن الرأي، وحرية الضمير ، وحق نشر المعلومات والمعارف وتبادلها، كما تشمل حق المجتمع الأكاديمي في إدارة نفسه بنفسه، واتخاذ القرارات الخاصة بتسيير أعماله، ووضع ما يناسبها من اللوائح والأنظمة والإجراءات التي تساعده على تحقيق أهدافه التعليمية والبحثية العلمية.
3-  تأكيد حق جميع المواطنين في فرص متكافئة وحسب معايير الكفاءة للالتحاق بمؤسسات البحث والتعليم العالي، سواءً كان ذلك على مستوى الحق في دخول الهيئة التعليمية أو الاستفادة من الفرص التعليمية، دون تمييز سياسي أو معتقدي أو اجتماعي      أو عنصري، وكذلك حق الطلبة في تأهيل علمي يتفق وحاجات ادراجهم في الحياة الاجتماعية المثمرة، وتلبية تطلعاتهم المهنية، وفي اختيار ميدان دراستهم بحرية واعتراف السلطات الرسمية بتحصيلهم العلمي ومهاراتهم.
4-  تأكيد حق أعضاء الهيئة الأكاديمية العربية في الانسياب عبر الدول العربية وفي التواصل مع المجتمع الأكاديمي على الصعيد العالمي، والوصول إلى مصادر البيانات والمعلومات، وتبادل الأفكار والآراء ونشرها دون قيود أو مضايقات.       
5-  تأكيد حق مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في إدارة شؤونها على أسس ديمقراطية، واختيار هيئاتها الأكاديمية عن طريق انتخابات حرة، يناط بها كل ما يتعلق بتعيين أعضاء الهيئة العلمية أو فصلهم، أو معاقبتهم، أو ترقيتهم على أساس معايير مهنية، وكذلك تأكيد حق الطلبة في المشاركة في هذه الإدارة.
6-  تأكيد حق أعضاء المجتمع الأكاديمي بمكوناته الثلاث في تكوين نقابات خاصة تدافع عن مصالحه أو تخدم عمله.
7-  تأكيد واجب الدولة في توفير الموارد الضرورية لتوسيع شبكة التعليم العالي والبحث العلمي، والارتقاء بنوعيتها، وإيلاء اهتمام خاص بمستوى تأهيل ومعيشة الهيئة العلمية؛ بما يخدم حاجات المجتمع، والسعي إلى توفير التعليم الجامعي المجاني لجميع الراغبين فيه.
8-  إن تأكيد حقوق المجتمع الأكاديمي تجاه السلطة العمومية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى يرتب على هذا المجتمع أيضاً، التزامات أساسية علمية وأخلاقية يقع في مقدمتها الالتزام بالقيم العلمية والإنسانية، واحترام الطلبة ومعاملتهم حسب معايير الكفاءة العلمية والمهنية.
9-  التزام أعضاء الهيئة الأكاديمية بوضع التعليم والبحث العلمي في خدمة مجتمعاتها، وعدم استغلال الحريات الأكاديمية ونتائج الأبحاث العلمية لأغراض تتعارض مع غايات العملية التعليمية والعلمية، أو تخل بمبادئ حقوق الإنسان أو تسيء إلى تحقيق الأهداف والقيم الإنسانية.
10-          التزام مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي بتوطين البحث العلمي والكفاءات العلمية، وتطوير التعاون مع السلطات العمومية ومؤسسات المجتمع والحد من ظاهرة هجرة الأدمغة من البلاد العربية.
11-          التزام مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي بتلبية حاجات مجتمعاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والأخلاقية ومقاومة انتهاكات حقوق الإنسان من أي طرف جاءت.
12-          التزام مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي بالتضامن بين الهيئات الأكاديمية العربية مادياً ومعنوياً، وتقديم الدعم للأعضاء الذين يتعرضون لانتهاكات حقوقهم على مستوى العالم العربي والعالم أجمع.
13-          التزام مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي بتطوير علاقات التعاون والشراكة على مستوى العالم العربي وعلى المستوى الدولي أيضاً، في سبيل ردم الفجوة المعرفية والتقنية بين المجتمعات الإنسانية، وكسر احتكار المعرفة والاستفادة من نتائج البحث العلمي  أو تقييد تداولها من جانب مجموعة صغيرة من الدول أو الشركات، والسعي إلى وضع المعرفة العلمية في خدمة تفاهم المجتمع الدولي وانسجام الجماعة الإنسانية. الحريات الأكاديمية في الدول الحديثة.
و قد نشرت مؤسسة الفكر العربي تقريراً بعنوان «هجرة العقول العربية أسبابها وآثارها الاقتصادية» ، فمعظم هذه العقول العربية المهاجرة – كما وردت في التقرير – هم من حملة الشهادات الجامعية العلمية والتقنية والفنية كالأطباء، والعلماء، والمهندسين والباحثين، والاختصاصيين في علوم الاقتصاد والرياضيات والاجتماع وعلم النفس والتربية والتعليم والزراعة والكيمياء والجيولوجيا، وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً هل الدول العربية بيئة طاردة للعقول المفكرة…؟  من أهم الإحصائيات التي ذكرها التقرير :
·   يهاجر نحو 100 ألف من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي: لبنان، سورية، العراق، الأردن، مصر، تونس، المغرب، والجزائر. كما أن 70% من العلماء الذين يسافرون للتخصّص لا يعودون إلى بلدانهم.
·        منذ عام 1977 هاجر أكثر من 750 ألف عالم عربي إلى الولايات المتحدة.
·   50 % من الأطباء و23 % من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية، يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا.
·   يسهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية، خصــــــوصاً أن 54 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.
·   يشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها، وقد قرأت في دراسة علمية أخرى أن ربع أطباء الأسنان في هولندا من الدول العربية.
·   تجتذب ثلاث دول غربية غنية هي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا نحو 75 % من العقول العربية المهاجرة.
·        قدمت مصر وحدها في السنوات الأخيرة 60% من العلماء والمهندسين العرب إلى الدول الغربية.
·        يوجد نحو 4102 عالم إسلامي في مختلف علوم المعرفة في مؤسسات ومراكز أبحاث غربية(10).

أسباب هجرة العقول

إن الدوافع  المؤدية الى هجرة العقول العربية- كما جاء في التقرير- و غيره من الدراسات  و التقارير  تعود إلى مجموعة من العوامل الطاردة التي تدفع  بالكفاءات العربية إلى الهجرة وترك أوطانها منها بعض مظاهر التخلف ، و تدنٍ كبير في مستوى الدخل، وجمود المؤسّسات البحثية العربية القادرة على احتواء مثل هذه الطاقات، وفشلها في توفير الجوّ العلمي الملائم لها والاستفادة من قدراتها العلمية، و يضاف اليها  النزاعات والحروب التي عصفت بالدول العربية خلال الـ 50 عاماً الماضية  التي ساعدت على هجرة العقول للخارج للبحث عن مأوى آمن، كذلك فإن ضعف ميزانيات البحث العلمي في العالم العربي لم يشجع النابغين العرب على استكمال أبحاثهم العلمية في أوطانهم الأصلية  فإنفاق الجامعات العربية على البحث العلمي لا يتعدى 1 % من ميزانياتها، فيما تنفق الجامعات الأمريكية 40 % من ميزانياتها على أبحاثها العلمية ، إضافة إلى البيروقراطية والفساد الإداري
ويلخص أيضا  الدكتور فاروق الباز (11 ) الأسباب الإدارية لتعطل وجمود حركة البحث العلمي في عالمنا العربي كما عاشها وذاق مرارتها مما دعاه للهروب سرا إلي الولايات المتحدة الأمريكية وانطلاقته العلمية من هناك في الجوانب التالية :
1-         حالة التخلف التي تعانيها إدارة البحث العلمي كباقي مجالات المجتمع
2-       الفساد الإداري والذي استشري في مؤسساتنا العربية وامتد بطبيعة الحال إلي قطاع البحث العلمي حتى أصبح يوظف لتحقيق المنافع التافهة الخاصة
3-         سوء تنظيم العلاقة بين المؤسسة الإدارية بشكل عام وبخاصة المدير المشرف علي مؤسسة البحث العلمي وبين الباحثين حيث أنها علاقة مسئول ومدير وموجه ومسيطر علي الباحث وفي الغالب لا يكون هذا المدير متخصصا في المجالات التي يعمل أو وصل إليها الباحثون مما يشكل عائقا وتحديا كبير أمام الباحث يفرض علي الباحث مالا يخدم مصلحة البحث العلمي ويقيد نشاطه العلمي في حين أن هذه العلاقة في الغرب علاقة علي عكس ذلك تماما حيث تعد علاقة المساعد والداعم والمعاون والخادم للباحث، وللباحث مطلق الحرية في نشاطه البحثي الذي يقوم به .
4-        سيادة روح الفردية والانا على الثقافة المجتمعية والإدارية وغياب روح الفريق القادر علي تجميع الأفكار والآراء في بوتقة واحدة لخدمة حركة البحث العلمي ، مما يجعل الباحثين يعملون في جزر منعزلة حيث يفتقرون إلي فكر ونظام إداري مؤسسي فعال يجمع ويوحد جهودهم.
5-         تقديم أهل الثقة علي أهل العلم والمعرفة والخبرة .
6-      غياب حرية الفكر والتعبير وإبداء الآراء والأفكار الجديدة أو المعارضة وعدم  القدرة علي مواجهة و   الاعتراض علي الأفكار والمفاهيم الخاطئة .
7-          الخلل في منظومة معايير ومقاييس النجاح والإنجاز .
8-          ضعف دوافع ومحفزات البحث العلمي والإبداع .
9-            وأد المبادرات الفردية والحرب علي المبدعين وحرمانها من فرصة البحث الحقيقي والتجريب .
10-               تشتت الولاءات للذات وللكيانات والتجمعات الخاصة علي حساب الولاء للمجتمع والدولة .
11-                  غياب ثقافة العلم والمعرفة والبحث العلمي أمام العديد من القيم والثقافات السائدة .
12-                 ضعف الاهتمام الرسمي بإدارة المعرفة وتطوير إدارة البحث العلمي بشكل مناسب يدفع عجلة البحث العلمي بشكل سريع و في مسارها الصحيح .

خصائص هجرة الكفاءات
أن عوامل الطرد و الجذب تؤثر على هجرة الكفاءات و تتسم الهجرة بأنها:  
أ – انتقائية: أي أن أفضل العناصر البشرية هي التي تهاجر،  إما لأنها قادرة على الهجرة   أو أن الطلب عليها   في الخارج يتجه إلى انتقاء العناصر الجيدة. 
 ب – تلقائية: بمعنى أنها غير منظمة رسميا فلا توجد مؤسسة دولية أو إقليمية دائمة تعمل على تنظيم انتقال الموارد البشرية بين الدول.
فالهجرات المبكرة التي بدأت من سوريا و لبنان و مصر و العراق ترجع إلى أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. في حين أن العامل السياسي هو العامل الحاسم في هجرة العقول المعاصرة المتمثل في الحروب و الانقلابات العسكرية و غياب الحريات  و الديمقراطية   و قوانين الطوارئ و مكافحة الإرهاب. و قد أشار أنطوان  زحلان أنه بناء على بيانات اليونسكو الإحصائية فإن 85% من الحاصلين على درجة الدكتوراه في الخارج لا يعودون الى بلدانهم الأصلية(12).   
فقد عانى لبنان من هذه المشكلة أثناء و بعد الحرب الأهلية في السبعينيات التي تركت آثارها على الفرد و المجتمع على حد سواء. و تعاني ليبيا و الجزائر و سوريا و العراق أيضا من هذه المشكلة أي الهجرة لأسباب سياسية. فعندما سيطرت الحكومات القمعية على الجامعات و مراكز الأبحاث، و انتهكت حقوق العاملين و هم صفوة العلماء و الباحثين  و المفكرين  و الأدباء سواء بالاعتقال أو بالتصفية الجسدية أو بمصادرة الأموال أو بالإقامة الجبرية كانت الهجرة هي الخيار الأفضل.
و بحسب تقارير البنك الدولي والجامعة العربية، ينتقل ما يقارب 40% من مهاجري الشرق الأوسط إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) و هي دول متقدمة، ويهاجر 23% منهم إلى دول متقدمة أُخرى،31,5 % يهاجرون إلى دول داخل الشرق الأوسط، و1% فقط من المهاجرين ينتقلون إلى دول نامية أُخرى في العالم.
ويُستَدل من معطيات الجامعة العربية أن عدد المهاجرين إلى الدول العربية أكبر من عدد المهاجرين من دول عربية إلى الخارج بسبب صناعة النفط، وبسبب القيود الغربية علي السفر حاليا .
كما أثرت أحداث الربيع العربي والثورات الأخيرة التي اندلعت في بعض الدول العربية تأثيرًا كبيرًا على عدد المهاجرين واللاجئين، حيث هاجر كثيرون من سوريا، ومن دول أُخرى تشهد صراعات دموية، فتشير بعض  التقديرات بأن اللاجئين في المنطقة يشكلون نسبة 65,3% من النسبة الكلية للمهاجرين في الدول العربية. في ظل الهجمة العدوانية على سورية كثرت الأسباب وراء هجرة الأطباء والمهندسين والكوادر العلمية والمهنية والحرفية وما إلى ذلك منها الأعمال التخريبية للإرهاب ، وتراجع سوق العمل ، وامتداد الأزمة وتواصلها والأهم من كل ما تقدم عمليات الاغتيال والاستهداف لدى غالبية الكفاءات إذ تعرضت الكوادر العلمية والطبية للقتل من قبل المجموعات الإرهابية والتي هدفت إلى "تصفية ممنهجة " وراح ضحيتها أفضل الأطباء والعلماء كما تعرض بعضهم أو أحد أبنائهم للخطف بغية الابتزاز المادي ،  فدفع بعضهم إلى مغادرة الوطن خوفاً على حياتهم وحياة أسرهم(13).
و تشير الإحصاءات إلى أن 7350 عالماً هاجروا من العراق إلى الغرب في الفترة من 1991 -1998 بسبب الحصار الذي كان مفروضاً على العراق. وفي السنوات الثلاث الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق أي من 2003 - 2006، اُغتيل 89 أستاذاً جامعياً عراقيا، و قد شكلت مؤسسة قطر لجنة لحماية العلماء العراقيين بجميع الصور الى درجة تزويدهم بسترات واقية ضد الرصاص و مع ذلك استمرت تصفيتهم واحداً تلو الآخر(14) ،  وتؤكد منظمة العمل العربية إن هنالك 450 ألف من حملة الشهادات العليا العرب الذين هاجروا إلى أمريكا      و أوروبا خلال السنوات العشر الأخيرة، وإن أكثر من نصف الطلاب العرب الذين يتلقون دراساتهم العليا في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم بعد التخرج وهذا يدل على وجود خلل يجب معالجته لمصلحة كل من الوطن و أبنائه الشباب)15(. كما قدر عدد اليمنيين العاملين في الخارج في عام 2011 بحوالي مليونين شخص ، يعمل معظمهم في دول الخليج و أوروبا و آسيا و افريقيا و الولايات المتحدة الأميركية . و تشكل نسبتهم ما يقاب من 8% من إجمالي سكان اليمن . كما يقدر عدد المهجرين الذين استقروا في الخارج و اكتسبوا جنسيات دول أخرى بنجو سته ملايين ( 16 ). و قد خسرت جامعة قطر في السنوات الخمس لأخيرة الكثير من كادرها الأكاديمي القطري ، الحاصلون على درجة الدكتوراه منهم الأستاذ المساعد والأستاذ المشارك والأستاذ . و بلغ عدد الأكاديميين القطريين الذين تركوا الجامعة حوالي مائة و عشرون عضو هيئة تدريس منهم 15 بدرجة أستاذ و 40 بدرجة أستاذ مشارك و 55 بدرجة أستاذ مساعد.
فبعض الأكاديميين القطريين من حملة درجة الدكتوراه أحيل للتقاعد بحجة الوصول للسن القانوني للتقاعد ( 55  سنة للإناث و60 سنة للذكور)  . واستعيض عنهم بكادر أكاديمي أجنبي من الجنسين من بينهم الكثير ممن تجاوز سن  التقاعد (60 سنة )  .
وهناك بعض الأكاديميين القطريين ممن استقالوا من الجامعة برغبتهم قبل الوصول إلى سن التقاعد القانوني        و منهم من هو قابع في بيته دون عمل و في سن العطاء ، ومنهم من بحث عن وظيفة أخرى في الدولة وعمل بها .
إضافة إلى فئة  أخرى من أعضاء هيئة التدريس القطريين تركت الجامعة  و العمل الأكاديمي  كإعارة  أو ندب للعمل في مكان آخر في الدولة (17).
وقد أكد تقرير للجامعة العربية ارتفاع نسبة المتعلمين من بين المهاجرين من الدول العربية، وارتفاع نسبة تسرب الأدمغة والأشخاص المتخصصين بمجالات معينة، وأن الكثيرين من المهاجرين العرب هم أطباء يبحثون عن دولة يتم فيها تأمين مكان عمل لهم، ويؤدي هذا الأمر إلى تناقص جودة الموارد البشرية وجودة الطب الذي تقدمه الدول العربية لمواطنيها.
أضف إلى ذلك فان الجامعات و مؤسسات التعليم العالي و مراكز البحوث تحولت إلى مراكز أمنية تدار من قبل رجال الأمن و المخبرون السريون بحجة حماية الأمن القومي.  اضافه إلى ذلك فقد  خضعت الأبحاث و المؤلفات  و المجلات العلمية للرقابة و المصادرة الذي خلق مناخا غير ملائم للإبداع  و التفكير الخلاق.
 و على هذا النحو يشكل الواقع السياسي و الأمني سبباً رئيسا  في هجرة الأدمغة الى الخارج. فتعاني معظم الدول العربية من اضطرابات سياسية وحروب أهلية مست العلماء و الباحثين فأدى عدم الاستقرار السياسي  و الأمني إلى الهجرة. ونجمت عن حالة الاضطراب خلال العقود الاخيرة موجات هائلة من نزوح الأدمغة بخاصة في بلدان مثل مصر والعراق و سوريا ولبنان و اليمن  والجزائر و ليبيا و تونس ، وهو نزيف يتجه الى الارتفاع  نظراً  الى استمرار الحروب   و النزاعات . و الى قمع و تقييد حرية الرأي والتعبير في البحث والتحقيق وتعيين المعطيات واصدار النتائج. ولا يزال العالم العربي يتعاطى مع الأرقام بصفتها معطيات سياسية ذات حساسية على موقع السلطة.  وتشير تقارير عربية الى تدخل السلطة السياسية في أكثر من ميدان لمنع اصدار نتائج ابحاث   أو دراسات أو نشر مؤلفات، تكون الدولة  قد تكبدت مبالغ لإنجازها، وذلك خوفاً من أن تؤثر نتائج الدراسات على الوضع السياسي أو الأمني . كما تشكل التقاليد والأعراف وتدخل المؤسسات الدينية أحياناً عوامل اعاقة في نجاح البحث العلمي واعلان نتائجه
وعليه فإن البحث في مسالة هجرة الكفاءات أو العقول العربية يطرح التساؤل الآتي: لماذا تفشل أو تخفق الدول العربية في جذب الكفاءات المهاجرة حين نجحت في ذلك دول  أخرى ؟
 لقد فشلت سياسة الجذب أو الاستقطاب في الدول العربية في توطين الكفاءات. باختلاف أسباب و دوافع الهجرة  فعلى سبيل المثال اختلفت آلية إنتاج الهجرة بعد حرب الخليج الثانية عاما 1990م. عن الهجرة  في الألفية الثانية .
و ذلك  ان سياسات الجذب التقليدية التي كانت تنظر إلى الكفاءات العربية المهاجرة كرأسمال بشري مستثمر، أصبحت عديمة الجدوى حينما ارتبطت سياسة الاستقدام بالشأن الأمني .
و من جانب آخر فقد انخفضت الهجرة إلى الغرب عموما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م نتيجة للقيود الصارمة التي وضعت على الهجرة      و بخاصة على المهاجرين العرب المسلمين.
و ساهمت قوانين مكافحة الإرهاب Anti Terrorist Actو القانون الوطنيPatriot Act   في الولايات المتحدة الأمريكية   ( الذي أنتهى تطبيقه  بنهاية شهر مايو 2015 )،  و كندا و بعض الدول الغربية و استراليا في الحد من الهجرة من جهة و دفعت ببعض المهاجرين العرب و المسلمين على وجه الخصوص إلى الهجرة العكسية إما لأوطانهم الأصلية   أو لمناطق جذب أخرى يتوفر فيها الأمن و الحرية والعدالة.
  اذن  كيف يمكن جذب أو إعادة الكفاءات العربية المهاجرة إلى الوطن العربي ؟؟ علينا أن نبحث أولا في العوامل الرئيسة التي تدفع إلى الهجرة.
نجد إن طبيعة الأبنية الاجتماعية السلطوية التقليدية التي تكبح الحريات  و تقيدها و تعزز الاغتراب الاجتماعي     و السياسي تعد عاملا أساسيا لهجرة الكفاءات.  اضافة إلى غياب الديمقراطية و عوامل إضعاف المشاركة التي تظهر في:
  * السلطة المركزية التي كرست الفرد الرئيس أو الحزب الواحد و ألقت التعددية و قضت على الديمقراطية        و محاولات الإصلاح،
  * الانغلاق الفكري و التعصب و نفي و إقصاء الآخر أدى إلى خوف المثقفين  و النخب و تراجعهم عن إعمال العقل و النقد و الإبداع و التفكير الحر؛
  * الرقابة و مقص الرقيب عزز عدم التجديد و المواربة و العزلة و الاغتراب مما اثر بدوره على الهجرة بحثا عن حرية التعبير؛ 
  * استمرارية قوانين الطوارئ و مكافحة الإرهاب في بعض الدول العربية .
   فإذا نظرنا إلى هذه العوامل التي أدت إلى هجرة الكفاءات إلى الهجرة نجدها مشابهة للعوامل المؤدية إلى الهجرة العكسية اليوم من الغرب المتمثلة في قانون الوطنية و قوانين مكافحة الإرهاب التي تسمح بالحجز و الاعتقال ومراقبة الاتصالات  و مصادرة أجهزة الكومبيوتر و الوثائق الشخصية  و المفكرات ومراجعة حسابات البنوك والتحويلات ومراقبة الأبحاث اضافة إلى منع البحث العلمي و الأكاديمي في المجالات الاستراتيجية كالفيزياء النووية و علوم الفضاء والهندسة الوراثية و غيرها.
 و بهذا الوضع أصبحت الفرص مواتية للدول العربية المنفتحة و المتجهة إلى الإصلاح و بها هامش حرية تفعيل القوانين واحترام حقوق الإنسان لجذب تلك الكفاءات و توفير البيئة الآمنة سياسيا واجتماعيا و ثقافيا.
و حيث أن هجرة الكفاءات العربية تؤثر على خطط التنمية العربية مما تتطلب إيجاد حلولا فعالة و إجراءات عملية للحد من هذه الظاهرة. ويصبح وضع إستراتيجية عربية لمعالجة هذه الظاهرة أمرا ملحا.
وفي هذا الصدد  تجدر الإشارة إلى إن هناك بعض المحاولات التي سعت إلى استعادة واستقطاب الكفاءات العربية المهاجرة كمبادرة جامعة الدول العربية  و المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة  و الاتحاد البرلماني العربي والجمعية الملكية بالأردن، كما أن مصر عقدت مؤتمرات للمغتربين، إلا إن هذه المحاولات لم تحقق أهدافها في جذب الكفاءات، إما لسوء التنظيم أو لعدم التخطيط الجيد أو أن الوعود تجاوزت الواقع   أو لغيرها. في حين أن هناك استراتيجيات لجذب الكفاءات المهاجرة وضعتها دول آسيوية  و افريقية حققت نجاحا إلى حد معقول.  ويمكن الاستفادة من تلك الاستراتيجيات؛ كالاستفادة من خبرات و مهارات الكفاءات المهاجرة دون إرغامها على العودة كما فعلت شبكة جنوب أفريقيا للمهارات في الخارج، فمن خلال عضوية هذه الشبكة يقدم المهاجرون خدمات و استشارات فنية و بحثية واقتصادية لنظرائهم في الوطن دون الحاجة إلى العودة  و الاستقرار في الوطن. و قد نجحت مؤسسة قطر للتربية و العلوم و تنمية المجتمع في استقطاب مجموعة من العلماء العرب المهاجرين للعمل في مراكزها البحثية المختلفة بعد عقدها مؤتمرها   للعلماء المغتربين الأول عام 2007 م .

تأثير الحرية الأكاديمية على التنمية

أثبتت تجارب التحديث في الدول النامية أن المدخل الأساسي للتنمية  ينطلق من منابر الجامعات ومراكز الأبحاث. فلأساتذة الجامعات دور بارز في تنشيط التنمية المستدامة، بأبعادها البشرية والاقتصادية و السياسية و الثقافية  و الاجتماعية . ولا تتحقق عملية التنمية المستدامة  مع غياب الحريات  الأكاديمية، أو منع التفاعل الإيجابي الحر بين التعليم والابتكار والتكنولوجيا المتطورة و حرية الفكر و النقد البناء .
ولا يستقيم ربط التعليم الأكاديمي بالتنمية الاقتصادية وسوق العمل إذا قمع الأستاذ الجامعي والطلبة الجامعيون، فهم يشكلون العمود الفقري لبناء مجتمع المعرفة في  المجتمع لكي يكون قادرا على مواجهة تحديات التنمية المستدامة في  عصر العولمة. أن خطورة الأمر تكمن في أن الهجرة سوف يكون لها تأثير كبير على الأجيال الأصغر من كفاءات الدول النامية خاصة لأولئك الذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الأقدر وسيؤدي الى زيادة الضرر على الدول المصدرة لهذه الكفاءات بدء من الفاقد في الاستثمار في التعليم وانتهاء بإضعاف القدرة الذاتية للمجتمع على القيادة والإدارة ومرورا بإضعاف قوى التنمية في المجتمع. ويؤكد ذلك  التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية والعربية عن جامعة الدول العربية لعام 2014 إلى أن الهجرة تؤثر على التنمية خصوصا في الدول العربية، لأن الهجرة والتنمية أصبحتا أكثر ترابطا في العقود الأخيرة من أي وقت مضى(18).

آليات حماية الحرية الأكاديمية و جذب الكفاءات العربية
و بناء على ما سبق يمكن اقتراح بعض الآليات التي قد تسهم في جذب الكفاءات المهاجرة على النحو التالي:
        وضع  سياسة تعتمد على الحوار بين المعنيين في الدول العربية و الكفاءات المهاجرة    و دعوتها لمناقشة قضاياها التي دعتها   للهجرة باعتماد مبادئ الصراحة و الشفافية لشرح طبيعة الواقع العربي الحالي دون تزييف بصورة لا تعطي المهاجر وعودا غير قابلة للتنفيذ مع ضمان حماية آمنه و حريته؛
        إنشاء مؤسسة عربية مستقلة غير تابعة لدولة ما  مختصه بشؤون الكفاءات العربية ترتكز على قاعدة بيانات دقيقة، تمكن الاتصال بالمهاجرين و ربطهم ببعض، اضافة إلى الاستعانة بهم في التدريس الجامعي و إجراء البحوث   و الدراسات الفردية و المشتركة والاستشارات و مشاريع التنمية؛
        تنظيم مؤتمرات للمغتربين العرب و دعوة الكفاءات العربية المهاجرة للفعاليات في الوطن العربي من مؤتمرات و ندوات و غيرها للاستفادة من خبراتها و بخاصة في   مجال نقل التكنولوجيا أو في تنفيذ المشروعات و أيضا لربطهم بالوطن العربي من خلال الزيارات القصيرة؛
        صياغة سياسة عربية لتنمية الموارد البشرية آخذه في الاعتبار التكامل بين الموارد البشرية   العربية المحلية و المهاجرة، و الذي بدوره يحتاج إلى إجراء مسح شامل  للكفاءات العربية المهاجرة يحدد حجمها وأماكن إقامتها  و ميادين تخصصها  و مجالات عملها؛
        وضع برامج وطنية لمواجهة هجرة الكفاءات و جذبها؛
        توسيع إطار المشاركة السياسية، و السعي من أجل تأصيل حقوق الإنسان العربي، و تأصيل الرؤى الرشيدة، و تحقيق الوفاق الوطني حول أهداف المجتمع من خلال تجربة ديمقراطية حقيقية، مع تبني استراتيجية وطنية لتنمية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية  و الثقافية تدعم المشاركة  و تنهض بالتعليم والبحث العلمي       و التقني  و المعرفي  وغيرها مما تشجع الكفاءات المهاجرة على العودة إلى أوطانها.
        تطوير و تحديث قوانين الهجرة و الجنسية و تيسيرها، مع السعي الجاد نحو تطوير نظم الإدارة و التعليم   و الصحة و التأمينات الاجتماعية و غيرها .
و خلاصة القول إن المجتمعات  العربية، تعاني من صعوبات تكوين الكفاءات العلمية، والأطر الفنية، وتعاني في الوقت ذاته، من إشكالات هجرة الأدمغة إلى الخارج، سواء بسبب عدم توفر بيئة محلية حاضنة، أو بسبب الإغراءات، وسياسات الاستقطاب، إضافة إلى تداعيات الإحلال بالعمالة الوافدة المنافسة،  و أصبح الأمر ملحاً ، من صناع القرار في الدول  العربية، وفي إطار تنامي الحاجة الحقيقية، إلى استقطاب الكفاءات، والخبرات العربية وضع استراتيجية عمل عربية موحدة، واضحة المعالم، لاستقطاب  الكفاءات العربية المهاجرة ، باعتبارها رأسمالا عربيا، وثروة قومية تتطلب الترشيد، والسعي الجاد لإعادتها،   والمحافظة عليها و دعمها لتسهم في عملية التنمية المستدامة .

__________________________________

المراجع :

1-   جهينة سلطان العيسى ، هجرة الكفاءات العربية و آليات جذبها ، منتدى الدوحة السادس للديمقراطية و التنمية و التجارة الحرة ، 11-13 أبريل 2006 ، الدوحة –قطر.
2-      إعلان ليما بشأن الحرية الأكاديمية و استقلال مؤسسات التعليم العالي  ، 1988
3-   نورية صالح الرومي ، مشكلات أعضاء هيئة التدريس في جامعة الكويت ،ندوة الجامعة اليوم و آفاق المستقبل ، كلية الآداب ، جامعة الكويت بالتعاون مع مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ، 25-27 نوفمبر  1996 ، ص 234
4-      الجمعية الملكية ، و يكيبيديا ، الموسوعة الحرة ar.wikipedia.org
5-      علي أومليل ، الحرية الأكاديمية و المواثيق الدولية ، مجلة الهلال ، القاهرة ، عدد يناير ، 2005 ، ص 91.
6-      منظمة التعاون و التنمية الدولية ، ظاهرة الهجرة و استنزاف العقول ، www.oecd.org
7-      UNESCO SCIENCE REPORT, UNESCO, PARIS,2005
8-      الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، 1948.
9-   إعلان عمان ، مؤتمر الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية ، 10-16 كانون الأول 2004 ، مركز عمان لدراسات حقوق الإنسان ، عمان – الأردن.
10- محمد عبدالله المنصوري ،عبدالعالي بوحويش الدايخ ، هجرة العقولالعربية ، أسبابها و آثارها الاقتصادية، مؤسسة الفكر العربي ، 2010.
11-  موقع د سعود بن عيد العنزي http://dr.saud-a-com
-A.B. Zhlan, Higher Education , R&D Econocic Development Regional & Global
12- Interace, Paper present at the Paper presented at the 2nd Regional Seminar Arab States , Morocco ,25-26 May ,2007
13-  آمال شماع ، هجرة العقول .. في ظل الأزمة السورية ، الأزمنة ،http://www.alazmenah.co
Her Highness Sheikha Moza bint Nasser ,openining keynote addrees ,World Innovation 14- - Summit fo Education (WISE) 2015, Nov3-5 ,2015, QNCC, Doha – Qatar
15  - فيضي عمر محمود ، دوافع هجرة الكفاءات الصحية العربية و تحديات الحد من الهجرة ، 2012، http://www.arabmed.de
16  -  عبدالعزيز العويشق ، هجرة الكفاءات وجه آخر لمأساة اليمن ، 20 أغسطس  2015 http//: www.alarabiya.net
17 - نور سلطان العيسى ، تدوينات نور naleasa1.blogspot.com
18- التقرير الإقليمي الثالث للهجرة الدولية