الأفكار الاجتماعية في العصور الوسطى الأوروبية
أهم مسألة شغلت مفكري العصور الوسطى هي مسألة علاقة العقل بالدين أو العلم بالإيمان .
فاختلفت الاجابة عليها باختلاف الشروط التاريخية و الاجتماعية. الا ان الأيديولوجية الرسمية للكنيسة هي التي كانت وحدها السائدة . التي تقول بإخضاع العقل العلم للدين. بمعنى انه حتى المعرفة العلمية تستمد من الدين أو تنسجم مع تعاليمه و لا تتعارض معه .و تحت ستار وحدة العلم و الإيمان تم اخضاع عالم الفكر كله لتعاليم الكنيسة .
و أصبحت محاكم التفتيش الأداة الرهيبة في وجه علماء الطبيعة و المفكرين الاجتماعيين و السياسيين و الاقتصاديين الذين حاولوا طرح افكار لا تنسجم مع تعاليم الكنيسة .
استطاعت المعارضة التي أبدتها الطبقات و الفئات المضطهدة أن تحدث بعض التبدلات في الايديولوجيا السائدة و ان تصوغ ايديولوجيا معارضة و مستقلة و ان كانت قد ارتدت طابعا دينيا . فاعتبرتها الكنيسة هرطقة تستحق العقاب . و على سبيل المثال كان محتوى الايديولوجيا المعارضة التصوفية التي يرتكز إطارها على القول بان هناك علاقة مباشرة بين الآلهة و الانسان يتم بلوغها بالرؤية الحسية المباشرة للإله و بمعنى غير مباشر ان " جميع البشر متساوون " .
و مع صعود الطبقة البورجوازية في أواخر القرون الوسطى تراجعت التراتبية الكنسية و الاقطاعية و برزت المعارضة . فمن خلال اطار التصوف الذي اكد على المساواة و في اطار الاشكال الأخرى للتجديد الديني نمت الأفكار و النظريات الفلسفية و الاجتماعية الملائمة للبورجوازية و عامة الشعب .
القديس أوغسطين :
ظهر في فترة انهيار الإمبراطورية الرومانية عندم اشتد الصراع بين روما الوثنية و روما المسيحية . اشتغل كأستاذ للبلاغة و اهتدى الى المسيحية بعد شباب مضطرب كرس نفسه بعده للدفاع عن الدين . استفاد الوثنيون الرومان من حادث نهب روما و عزوا مسؤولية الكارثة الى المسيحيين ، فتولى سان أوغسطين الدفاع عن المسيحية و تحول من مدافع عن الدين الى مفكر اجتماعي سياسي . يعد كتابه " مدينه الله " من اهم كتب فلسفة التاريخ ، و بفضل هذا الكتاب أصبح أحد مؤسسي هذا النسق المعرفي الذي يبحث في مسار المجتمعات البشرية و أهدافها و قوانينها العامة .
و تقوم العقيدة الدينية السياسية للقديس أوغسطين على أساس التمييز بين الحاضرتين اللتين تقتسمان الانسانية : " الحاضرة الأرضية و الحاضرة السماوية " ، و اضافة أوغسطين ان الحاضرتين تعيشان أبدا جنبا الى جنب منذ نشأة الزمان .
و تجدر الاشارةالى ان التناقض بين الحاضرتين مبني على المبادئ المتناقضة . فالاوغسطيون يجعلون الحاضرة الأرضية " حاضرة الشيطان " ، و يحاول أوغسطين ان يخفف من هذا التناقض بقوله : ان الله وحده يعرف أي حاضرة ينتمي اليها فعلا كل إنسان ، كما أن حاضرة الله ليست خاصة بالأتقياء و الحاضرة الأرضية ليست كلها سيئة ، و ان الفرق بين الحاضرتين هو فرق جوهري .
تقوم فلسفة التاريخ على ان التاريخ العالمي هو عملية اقتراب تدريجي مستمر للدول الدنيوية من قوانين مدينه الله . و هاتان المدينتان تقتربان تدريجيا الى ان تتم وحدة الدين و السلطة الزمنية في نهاية التاريخ حيث تحقق غاية الحياة و معنى التاريخ .
يتبين ان النظام الاجتماعي في القرون الوسطى كان مبجلا دينيا و مبررا تاريخيا . و يصبح العالم مسارا اجتماعيا – دينيا هادفا الى تحقيق غرض او غاية رسمتها العناية الالهية المتمثلة في الحصول عل الخلاص و الاقتراب من الله . اذن التاريخ الانساني بكل ما فيه من ويلات هو تاريخ الخلاص و السرور الالهي . و اعتمدت الكنيسة على فلسفة التاريخ عند أوغسطين، فاذا كان هذا هو معنى التاريخ فكل النشاطات الدنيوية و العلمية يجب أن تخضع للغرض الديني الأسمى للإيمان .