إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 10 فبراير 2012

اتجاهات دراسة الشخصية

إن دراسة الشخصية دراسة منهجية علمية هي عملية مشوقة و شاقة لها أهميتها التربوية و الاجتماعية و النفسية و حتى الاقتصادية و السياسية . فهي مشوقة لأنها تبحث في صميم الكائن الحي و ما يحرك سلوكه و يوجهه و يميزه عن الآخرين ، و يساعده على التكيف مع بيئته ، و إشباع حاجاته بطريقه سوية يستطيع من خلالها أن يكون له دور فعال في مجتمعه ، و بالتالي يسهم في تنميته . أما اعتبار دراسة الشخصية عملية شاقة فترجع الى العديد من العوامل المترابطة و المتفاعلة التي تكون الشخصية ، فمن بين هذه العوامل ما يرتبط بالتكوين الجسماني للإنسان ، و منها ما يعود و يرتبط بالبيئة الطبيعية التي يعيش فيها ، و منها و هو الجزء الأكبر المرتبط بالعوامل الاجتماعية و الثقافية الفريدة التي تؤثر فيه و تميزه عن غيره من افراد الجماعة التي ينتمي إليها ، و التي تميزه أيضا عن افراد جماعات أخرى.
هناك تعريف عام للشخصية ينظر إليها كعمليات نفسية منظمة معقدة مدفوعة و متصله بعدد من القوى الداخلية و الخارجية  ، فيحتوي هذا التنظيم على عمليات إنفعالية و عقلية تعلمها الفرد من خلال مراحل نموه و حددها له تكوينه البيولوجي .
و هناك تعريف آخر أثر تحديدا  " إن الشخصية تحتوي على عوامل داخلية ثابته تجعل سلوك الفرد ثابتا متماسكا من موقف الى أخر و من فترة زمنية الى أخرى ، كما يختلف هذا السلوك عن سلوك الآخرين في الموقف نفسه" .و على هذا النحو بني المفهوم على السلوك الظاهر و الملاحظ بدلا من اللجوء الى تصورات نظرية عن عمليات مختلفة داخلية منظمة .
فتتكون الجوانب الثابتة من السلوك من وحدات تعكس أو تعبر عن نزعات أو إستعدادات داخلية يصعب ملاحظتها و لكنها تكون استعدادات و إمكانيات أو إحتمالات (توقعات ) سلوكية حتى في حالة عدم التعبير عنها سلوكيا .إلا أن هذه النزعات أو الإستعدادات السلوكية لا تكٌون الشخصية ، و لكنها تعتبر مؤشرات لنزعات داخلية كامنة تنعكس في السلوك الظاهر .
و لا تختلف وظيفة هذه النزعات عن وظيفة المعايير الاجتماعية ، فهي تمارس ضغطاً على سلوك الفرد ، كما تظهر في سلوكه الموجه دائماً ، و في استجاباته الانفعالية و العقلية و أساليب اتصاله و نوعية علاقاته مع الآخرين .
فمن الصعب أن نفهم هذه النزعات و نفسرها إلا إذا عدنا إلى بناء الشخصية في الإتجاه الأول أي الى العمليات النفسية التي تكونها . فإذا أخذنا -على سبيل المثال - يابانياً و أمريكياً في نفس المستوى من الإنجاز ، نرى أن الأول يقول : بأنه يعمل و ينجز لإرضاء و الديه و لرفع سمعة عائلته ، في حين أن الثاني يقول :  بأنه يعمل و ينجز لإرضاء نفسه و رفع سمعتها و الحصول على مزيد من التقدير و تقبل الآخرين له ، فهذا التفسير الذاتي يوحي بأن هذا الدافع مرتبط بنظم شخصية مختلفة ناتجة عن تفاعلها مع بيئات اجتماعية و ثقافية مختلفة (La Vine, Robert, Culture, Behavior and Personality , Chicago, Aldine , 1973 ) و على هذا النحو يمكن أن ننظر الى الشخصية على ثلاث مستويات مختلفة :
1- مستوى السلوك الثابت و الظاهر الذي يميز بين فرد و آخر أو جماعة و اخرى ، و يعد هذا السلوك كمؤشر للشخصية ، و قد تبرز هذه الفروق بين الشخصيات المتكاملة في مظهر سلوكي اجتماعي مرتبط بمواقف اجتماعية معينة .
2- مستوى النزعات الشخصية الكامنة وراء السلوك الثابت الظاهروالمعقد، إذ أنها تحتوي على دوافع و إنفعالات و عمليات عقلية يعبر عنها بطرق مختلفة .
3- مستوى الشخصية كنظام تنبثق من هذه النزعات و تؤثرعلى وظيفته ( La Vine , 1973 )
و بناء على ذلك  تختلف وجهات النظرفي دراسة الشخصية باختلاف العلوم الاجتماعية و نستعرضها على النحو التالي  :
(1) وجهة النظر النفسية
لقد اختلفت و تعددت الاتجاهات النظرية في معالجة الشخصية الإنسانية و إنعكست هذه الإختلافات في التعريفات المختلفة لها ، فمنها تعريفات تجزيئية و منها كلية تكاملية ، ومنها ما يركز على الجوانب العامة للشخصية ، ومنها ما يركز على التفرد في الشخصية ، ومنها ما ينظر الى الشخصية كمتغير وسيط يساعدنا على تفسير سلوك الأفراد و الجماعات و التنبؤ بها في بعض الأحيان ، و بالرغم من تعدد تعريفات علماء النفس للشخصية ، إلا أنه من الملاحظ أنها تجمع على أن : الشخصية وحدة كلية عضوية مكونة من خصائص فسيولوجية وسيكولوجية ، كما أنها من جانب آخر وحدة دينامية متفاعلة تحدد سلوك الفرد و توافقه مع بيئته الإجتماعية .
(ب) وجهة النظر الاجتماعية
يهتم علماء الاجتماع بموضوع الشخصية باعتبارها أحد الأسس الجوهرية التي تقيم الحقيقة الاجتماعية ، فالفرد لا يمكن أن يعزل عن مجتمعه و ثقافته ، فإنسانيته لا تتحقق إلا من خلال تفاعله الآخرين ، فاجبرون و نيميكوف (1960 ) يريان أن الشخصية تعني التفاعل النفسي الاجتماعي للسلوك عند الكائن الحي ، و الذي يعبر عنه بالفعل و الشعور و الاتجاهات و الآراء .وأهم ما يميزالشخصية هو تكاملها مع المواقف الاجتماعية و التعبير عنها في أفعال و تصرفات تبدو في التفاعل الاجتماعي مع الآخرين ،اي أنها تتفاعل وفق الموقف الاجتماعي .أما بارسونز (1965) فأكد أن الشخصية هي نسق يتأثر بالبيئة الاجتماعية ، و يبين مدى اهمية العلاقات بين الأفراد و الأنساق ، و تتغير هذه العلاقة بنمو الفرد .و قد ربط بين أطوار نمو الشخصية و تغير الأنساق الاجتماعية ، و توصل إلى ان نمو الشخصية ليس بعملية فسيولوجية بحتة تخص الفرد ، و إنما هي عملية اجتماعية نفسية ترتبط ببناء الأنساق الاجتماعية . و على هذ النحو فإن التكوين الوراثي لا يعتبر الأساس الذي يحدد الشخصية في صورتها النهائية ، بل تتداخل في تكوينها القيم الثقافية و توقعات الأدوار و معاني القضايا الاجتماعية التي يتوحد بها الشخص أثناء دورة الحياة . و يحاول سوروكين (1966) أن يبرز أهمية موضوع الشخصية في علم الاجتماع بقوله " إن الأفراد هم المكونات التي لا غنى عنها في كل الأنساق الاجتماعية و الثقافية "، فإذا كان الأمر كذلك فإن شخصياتهم كتنظيم لقولهم و سلوكهم تؤثر من غير شك في إطار الأنماط الثقافية و الاجتماعية . كما يؤكد  على دور  الإتصال المتبادل بين الفرد و الثقافة و المجتمع في تحديد ملامح الشخصية . فالفرد يتشبع بعالمه الثقافي و الاجتماعي و يتمثله ، و الثقافة مرآة تعكس فكر أصحابها و ما يكونونه  من تنظيمات اجتماعية ، أما المجتمع فإنه يعكس مكوناته من الأفراد و أنماطهم الثقافية
و لا يرى سوروكين تناقضاً
(ج) وجهة النظر الأنثروبولوجية
يرجع إهتمام علماء الانثروبولوجيا بالشخصية منذ بداية القرن العشرين ، و يتفق معظم الدارسين على إعتبار كتاب  " أنماط الثقافة " Patterns of Culture للعالمة الأنثروبولوجية روث بندكت في دراسة الشخصية . ثم تطورت الدراسات الأنثروبولوجية بعد الحرب العالمية الثانية الى دراسة الجماعات القومية و البحث في الأسباب الكامنة وراء خصائصهم الثقافية نتيجة لإنتمائهم إلى أمة معينة ، مركزين في ذلك على السلوك القومي في صنع و تحديد السياسات الداخلية و الخارجية . و خاصة بعد أن إستعانت الحكومات بنتائج الدراسات الأنثروبولوجية في إخضاع بعض الشعوب لسيطرتها، و أشارت مارجريت ميد (1953) في أحد مقالاتها الهامة " بأن كل بحوث الشخصية القومية لم تكن تجرى لذاتها ، و إنما كانت أشبه بالدراسات التطبيقية الغرض منها إمداد السلطات العسكرية  و الجهات الحكومية بالبيانات اللازمة ، التي تمكنهم من فهم القيم السائدة عند الشعوب التي تدخل الولايات الأمريكية في علاقات معها ".
و قد انتهى العالم الأنثروبولوجي كلوكهون و زميلاه مري و شنيدر (1953) في كتابهم الشهير  " الشخصية في الطبيعة و المجتمع و الثقافة " الى الربط بين و جهات النظر الثلاث بقولهم المأثور :
      (1 ) كل إنسان يشبه جميع الناس في بعض الجوانب .
      (2 ) كل إنسان يشبه بعض الناس أو جماعة من الناس .
      (3 ) كل إنسان لا يشبه إنسان آخر .
فتشير العبارة الأولى الى الخصائص المتشابهة بين جميع أفراد البشر من ناحية التكوين الفسيولوجي و وظائف أجهزته و دوراته المختلفة كالجهاز العصبي و الدورة الدموية و الغدد و غيرها و . كما انها تشير الى الدوافع الفسيولوجية و النفسية و الاجتماعية الناتجة عنها و تأثرها بالتنشئة الاجتماعية مما يشكل وحدة متشابهة بين جميع البشر .
في حين تشير العبارة الثانية إلى الخصائص الجماعية الناتجة عن العيش في مجتمعات مختلفة بحضاراتها و ثقافاتها و تقليدها و أساليب تنشئة أبنائها  المميزة الذي ينعكس بدوره في شكل سلوك متشابه بين افراد هذه الجماعات و الذي يميزهم عن أفراد ينتمون الى جماعات أخرى مختلفة . و هذا يعني أيضا أن فئتي الذكور و الإناث تمثلان جماعتين مختلفتين ضمن المجتمع الواحد .
أما العبارة الثالثة فتشير الى الخصائص  الفردية في السلوك التي تميز الفرد بين أفراد الجماعة الواحدة و حتى بين أفراد الأسرة الواحدة ، و التي تعكس بالضرورة الفرق بين الأسر في  نفس المجتمع  ، والفرق في معاملة و تنشئة الأطفال في الأسر المختلفة ، و هذا بدوره يعكس التكوين النفسي للوالدين و أثرة على تربية أولادهما .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق