إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 4 يناير 2012

العلاقة بين الأنساق الاجتماعية و التنمية الثقافية

 
مدخل:
بدأ استخدام مفهوم التنمية الثقافية منذ أن عقدت منظمة اليونسكو مؤتمر البندقية عام 1970 لدراسة الجوانب المؤسسية و المالية للسياسات الثقافية. و تلاه عدة مؤتمرات إقليمية لتعميق المفهوم في هلسنكي و جاكرتا عام 1973 ، ثم في العقد العالمي1975 و بوغوتا عام 1978 . و توالت بعدها المؤتمرات و الاجتماعات على جميع المستويات العربية و العالمية. كما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 41/ 187 في ديسمبر 1986م العقد العالمي للتنمية الثقافية ليشمل الفترة 1988-1997 كبرنامج مشترك لمجمل أسرة الأمم المتحدة حيث تضطلع اليونسكو فيه بدور المنظمة الرائدة. و قد ساهم العقد في إشاعة عدة مفاهيم ، و أثار نقاشات حول سبل إعادة الثقافة بوصفها ميزة العبقرية الإنسانية  إلى مكانتها الحقيقية في صلب السياسات الثقافية . و بفضل هذا العقد توفرت حركة ثقافية نشطة اتسمت بمشاركة أطراف فاعلة، و استفادت منها جماهير غفيرة.
و ترتكز فلسفة العقد العالمي للتنمية الثقافية على ضرورة الترابط بين الثقافة و التنمية بعد ما تبينت أهمية العنصر الثقافي في كل عمل إنمائي ، إلى جانب إجراء حوار ثقافي بين الشعوب يحترم مقومات الهوية الثقافية الوطنية ،و يراعى التنوع و التكامل بين الحضارات على أساس وحدة القيم البشرية الجوهرية .
   لقد أكدت تلك المؤتمرات على أهمية الثقافة والتعددية الثقافية في التنمية، و تطورت من مجرد نظرية تنموية إلى مبدأ حركي أساسي في التنمية المستدامة باعتبار أن الاختيارات الثقافية هي التي تحدد اتجاهات التنمية و كيفية تطويعها لخدمة الفرد و المجتمع . كما أكدت على العلاقة التبادلية بين الثقافة و التربية التي تلعب دورا بارزا في عملية التنشئة الاجتماعية وفي تشكيل المكونات الأساسية للمثل العليا و القيم . مما استدعى بدوره الاهتمام بالتخطيط و التنفيذ و التقييم للبرامج والمشاريع الثقافية وعلاقتها بالتنمية المستدامة . و على هذا النحو شكلت المؤتمرات المذكورة مرشداً للبحث عن هوية ثقافية محركة ورافعة من روافع الوعي التنموي. 
 كما حرصت المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم منذ إنشائها عام 1970م على تنفيذ المشاريع و البرامج  الثقافية القومية ، و دعم مستوى العمل الثقافي . و ساعدت المؤتمرات الدورية لوزراء الشئون الثقافية في التخطيط و رسم السياسة الثقافية العربية ببعديها القومي و الإنساني. و تم إعداد وثيقة تتضمن خطة ثقافية عربية شاملة عرضت في الدورة الخامسة على مؤتمر الوزراء للشئون الثقافية عام 1985واعتبرت مساهمة من الدول العربية والمنظمة في العقد العالمي للتنمية الثقافية. و في عام 1998 أقر مشروع العقد العربي للتنمية الثقافية الذي قدمته المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم بحيث يغطي العشرية الأولى من القرن الحادي و العشرين ( 2000-2009 )، والتزاما بقرار مؤتمر الوزراء المسئولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي في دورته الرابعة عشرة التي عقدت بصنعاء أعلن عن انطلاق العقد العربي للتنمية الثقافية ( 2005-2014 ) .حيث يسعى هذا العقد إلى بلوغ الأهداف التي تم تبنيها من تأكيد الهوية الثقافية ، و دعم عوامل الوحدة  الثقافية العربية ، والارتقاء بالعمل الثقافي العربي المشترك ، مع تنمية الثقافة العربية المعاصرة ، و تشجيع الإبداع و المشاركة في الحياة الثقافية، و التعريف بالحضارة العربية الإسلامية ، و تشجيع الحوار الثقافي مع الحضارات و الثقافات الأخرى . و كل ذلك من خلال مسؤولية مشتركة بين الحكومات و الأفراد و مؤسسات المجتمع الرسمية و منظمات المجتمع غير الحكومية .
 والتنمية الثقافية من منطلق المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة تعني تنمية المجتمع ثقافيا، وتنمية الثقافة اجتماعيا و اقتصاديا، لتكون الثقافة عنصرا فاعلا في تطوير آليات النمو و لتدعيم الجهود التي تسخر للنهوض بمستويات الحياة، و لترقية الإنسان، و للرفع من قدراته، و لتحسبن أوضاع المجتمع. فهي تدخل في نطاق التنمية الشاملة و تقوم على ثلاث قواعد رئيسة، هي:
1-     إقامة العدل، في مدلولاته السياسية و الاقتصادية، و الاجتماعية،
2-     تكريم الإنسان بحفظ حقوقه كاملة، و تعهده بالتنشئة الصالحة و الرعاية المتكاملة،
3-     الأخذ بمناهج العلم في التفكير والتخطيط لطرق التقدم ، و لوسائل التطور ، ولأساليب الرقي في المجالات كلها " 1" 
وبناء على ما سبق فان التنمية الثقافية ترتبط بالبناء الاجتماعي ارتباطا وثيقا،  بحيث لا يمكن الوصول إليها و تحقيق أهدافها إلا من خلال التوازن بين النظم و الأنساق الاجتماعية كلها،  فكل تغير في نسق اجتماعي يصاحبه تغير في الأنساق الأخرى بصورة متكاملة. وبما أن النسق لا يؤدي وظيفته إلا من خلال تكامله  و تناغمه مع الأنساق الأخرى في المجتمع، فإن جميع الأنساق و النظم الاجتماعية تلعب أدوارا مختلفة  و متوازنة في عملية التنمية الثقافية.
مفهوم التنمية الثقافية:
يعد مفهوم التنمية الثقافية مفهوما حديثا في أدبيات علم الاجتماع. إذ تعتبر التنمية الثقافية جهدا واعيا مخططا له من اجل إحداث التغير الثقافي. فالتنمية الثقافية بالمفهوم المعاصر لا تشير إلى عملية تغيير مستهدف فحسب، و إنما إلى عملية تغيير مقصود و موجه يعتمد على سياسات محددة تقوم بتنفيذها مؤسسات مسئولة. و هي تبدأ من تنمية الثقافة أساسا ، وصولا إلى تطويرها ، و تحديثها ، و بلورتها ، حتى تكون ثقافة هادفة ، بناءة للإنسان و المجتمع  . فالتنمية الثقافية إذن هي مجموع ظواهر التغير الثقافي الدينامي الواعي الموجه نحو تعبئة و تنشيط العناصر الثقافية التي كانت جامدة نسبيا فيما مضى، سواء كانت عناصر روحية أو فكرية أو مادية، و تخفيف وطأة  أساليب السلوك التقليدية  و إعادة صياغتها أو التخلص من بعضها أو من أجزاء منها إذا ما استدعي الأمر .
فإذا نظرنا إلى المجتمعات الخليجية نجد نمطين اجتماعيين متلازمين: النمط التقليدي و النمط الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الجماعات الأولية دورا كبيرا في التكامل الاجتماعي. وتتميز العلاقات ضمن هذه الجماعات ( القبيلة و العشيرة والمجتمع المحلي الصغير و العائلة و الطائفة) بالتعاون الوثيق القائم على الولاء للجماعة و التضامن في ظلها. كما تتميز الجماعات الأولية ببناء ذي طابع أبوي يقوم على سيطرة الذكور و كبار السن. والقانون بالنسبة للجماعات التقليدية جزء لا يتجزأ من الدين و من التراث الثقافي بصفة عامة . وتتميز ثقافة الجماعات الأولية بأنها تتشابه في جوانب  و تختلف في جوانب أخرى عن ثقافة المجتمع الحديث أو المعاصر الذي يتميز بالدينامية و التغيروضعف سلطة الجماعات الأولية و الفردية . و في كلا المجتمعين يلعب الوعي التنموي الدور البارز في تحديد الهوية الثقافية. فالوعي التنموي يشير إلى جميع القيم الايجابية القائمة على علاقات اجتماعية متكافئة ،داعمة للممارسة الديمقراطية  المحققة للمشاركة الاجتماعية و السياسية و الثقافية" 2 ".  أي الوعي بثقافة قومية تنموية قادرة على الوفاء بالمهام التنموية.و قد حدد عبد الباسط عبد المعطي خمس مكونات تحدد محتوى الوعي التنموي العربي وهي:
1-     الوعي بفهم التخلف و التنمية و إدراكهما علميا و واقعيا،
2-     الوعي بالمجتمعات العربية، بمستواها القطري و القومي،
3-     الوعي بالطبيعة المحيطة بالمجتمع العربي بكل مكوناتها ،
4-     الوعي بالتغيير الاجتماعي و الثقافي المقصود و المخطط ،
5-     الوعي بثقافة قومية تنموية قادرة على الوفاء بالمهام التنموية .
ومن ثم  فإن الوعي الثقافي يتحدد في مستويات ثلاثة ، أولها المستوى الجماهيري  و هو الذي يعكس الوجود الاجتماعي و يتسم بالعفوية و التلقائية ، أما المستوى الثاني فهو ما يسمى بالوعي الإيديولوجي الذي يعكس الوجود الطبقي بعلاقاته و تناقضاته ، و المستوى الثالث هو الوعي العلمي الذي طورته قوى الإنتاج .و يظهر المستوى الأول في المجتمعات الخليجية في الجماعات الأولية كالقبيلة و العشيرة و المجتمع المحلي ، أما المستوى الثاني الأيديولوجي فيظهر بين المثقفين و أبناء الطبقة الوسطى ، في حين يظهر المستوى الثالث بين طبقة الفنيين التكنوقراط والمنتجين الاقتصاديين ( تجار و أصحاب رؤوس أموال ) ، و هذه المستويات الثلاثة لابد أن  تتفاعل معا بصورة متسقة لتكوين الهوية الثقافية .
أما التنمية بمعناها الواسع فهي مجموعة من العمليات الاجتماعية  الثقافية و الاقتصادية المخططة التي تهدف إلى تغيير المجتمع  ، كما  أنها تسعى إلى إحداث تغيير أساسي في البناء الاجتماعي بما يحتويه من تنظيمات مختلفة الأهداف من جانب،  وتحدث تعديلا في الأدوار و المراكز من جانب آخر، وتعمل اضافة إلى ذلك على تغيير الموجهات الفكرية والقيميه و بناء القوة . اذن يمكن القول بأن التنمية الشاملة  مكونة من عدة أبعاد هي البعد الاجتماعي و البعد الاقتصادي و البعد السياسي و البعد الثقافي و البعد النفسي  .و لا يمكن أن تتم عملية التنمية الشاملة إلا من خلال تعبئتها جميعاً.
والمستوى الاجتماعي/ الثقافي للتعبئة التنموية  يرتكز على تحريك النظام الاجتماعي وتكوين وحدات اجتماعية أكثر تعقيدا و اكبر حجما تقوم على التكامل الداخلي من حيث التكيف بين أفراد تلك الوحدات ، و من خلال الحراك الأفقي المتمثل في الهجرة المكانية كالانتقال من البادية إلى المناطق الحضرية و الصناعية ، و عن طريق الحراك الرٍأسي أي الانتقال من طبقة أو فئة اجتماعية إلى طبقة أو فئة أعلى في السلم الاجتماعي ،أي  تغيير العوامل المؤثرة على البناء الطبقي كتوزيع النفوذ و القوة ، و المكانة و التعليم   و الثروة ... الخ " 3 ".
و يعد البناء الاجتماعي بما يحتويه من طبقات و وحدات اجتماعية مختلفة و علاقات اجتماعية و بما يحتويه من قيم     و معايير و أنماط سلوك عاملا حاسما في عملية التعبئة الثقافية من اجل التنمية الثقافية و عنصرا رئيسا فيها.
و ذلك لأن الثقافة هي التي تشكل معايير نظام العقل و السلوك في المجتمع و الجماعة،  فهي التي تحدد نظرة الفرد و الجماعة لنفسها و لغيرها ( أي الآخرين ) و العالم من حولها، و من ثم تحدد طبيعة و شكل السلوك ( القيم ).  فتعرف روث بندكت الثقافة " بأنها - شأنها شأن الفرد تقريبا - تمثل نمطا متسقا إلى حد ما من الفكر و السلوك : فتوجد داخل كل ثقافة بعض الأهداف المميزة التي لا تشترك بالضرورة مع أنماط المجتمعات الأخرى ، و يحاول كل شعب في تحقيقه لهذه الأهداف أن يركز تجربته و خبرته الخاصة  و يبلورها أكثر فأكثر ، و بقدر إلحاح هذه الأهداف  و بقدر ما تحظى به من أهمية تتحول عناصر السلوك المتنافرة إلى شكل يزداد تلاؤما و انسجاما باستمرار" و تشير أيضا إلى أن بعض الثقافات تخفق في تحقيق هذا التكامل .ومن هذا المنطلق  فقد تعرض التراث السوسيولوجي في التنمية إلى ثلاثة قضايا مرتبطة بالتنمية الثقافية  وهي :
القضية الأولى: أن لكل ثقافة طابعها المميز، و خصائصها الفريدة، و من ثم يوجد فيها نسق للقيم يحافظ على هويتها، و يدعم وجودها و هي تتطور وتنمو وفق أسلوبها الإبداعي الخاص.
القضية الثانية: أن القيم الثقافية هي نتاج للواقع الاقتصادي الاجتماعي فهي تعكس طبيعة الإنتاج و علاقاته و دور الأنساق الاجتماعية في التنمية الثقافية.
القضية الثالثة: تكمن في التمييز بين القيم و المعايير، فالقيم تتضمن التفصيلات الإنسانية، و المعايير تتضمن تصورات إنسانية عن الواجبات و الالتزامات. و كل منهما يخضع للتغير خلال عملية التنمية الشاملة .         
و على هذا الأساس فإن إنتاج التنمية الثقافية وبناء النهضة يحتاجان إلى إنتاج متطلباتها من معارف وعلوم ومهارات وتقنيات، ومن إدارة ومؤسسات وتنظيمات حديثة، ومن قوانين وتشريعات حيوية، ومن دوافع وأفكار وقيم واتجاهات ، و إن التطوير و المتابعة و التقويم  آليات أساسية لضمان إنتاج متطلبات التنمية الثقافية وضمان استدامتها.
فينطلق الفكر التنموي الجديد الذي بدأت تظهر إرهاصاته على المستويين الرسمي وغير الرسمي في أدبيات علم اجتماع التنمية من ثلاثة مبادئ أساسية، نحددها في الجوانب التالية:
أولاً :     الإيمان الراسخ بقدرة الإنسان والمجتمع على صنع التنمية الثقافية التي تمثل البيئة الضرورية لبناء النهضة الجديدة.
ثانياً :    إن إنتاج التنمية الثقافية  وبناء النهضة يحتاجان إلى إنتاج متطلباتها من معارف وعلوم ومهارات وتقنيات، ومن إدارة ومؤسسات وتنظيمات حديثة، ومن قوانين وتشريعات حيوية، ومن دوافع وأفكار وقيم واتجاهات.
ثالثاً:     إن الإصلاح والتطوير آليات أساسية لضمان إنتاج متطلبات التنمية الشاملة الذاتية والموضوعية، وبقائها وضمان استدامتها.
وإذا اعتبرنا وفق المنظور السابق أن التنمية الثقافية هي العنصر الأساسي في بناء النهضة، فإن تحقيق أهدافها يتطلب التركيز على الجوانب التالية:
1-        عدم تجزئة الاحتياجات الإنسانية المادية وغير المادية ،
2-        توفر الحقوق والحريات الإنسانية ،
3-        مشاركة الإنسان في مسيرة مجتمعة من خلال التواصل بين الثقافات الفرعية،
4-        التوزيع و التوظيف العادل للموارد والمقدرات وإشباع الحاجات،
5-        التوظيف الأمثل للموارد والحفاظ عليها وإنماءها،
6-         تفعيل الدور الأساسي  للمؤسسات  و الأنساق  الاجتماعية في إدارة التنمية ،
7-         التأكيد على علاقة التنمية الثقافية بالمتغيرات الإقليمية والدولية.
ونخلص من ذلك إلى أن التنمية لابد أن تهتم بمستويين: المستوى الفردي، والمستوى المجتمعي.
·   المستوى الفردي : يهتم بإشباع احتياجات الفرد  في مراحل حياته المختلفة، ويسعى إلى تحقيق حالة من التطور والنماء في قدراته وطاقاته الجسدية والعقلية والنفسية والروحية والمعرفية والمهارية، وما يتطلبه تحقيق ذلك من موارد مادية وغير مادية.
·   المستوى المجتمعي: ولكي يتحقق الإشباع والتطوير على المستوى الفردي، يجب أن تتوفر آليات ومؤسسات مجتمعية لديها القدرة على تعبئة الموارد الداخلية واستثمارها، وضمان نمائها، ولها القدرة على التفاعل الإيجابي مع المتغيرات الدولية بما يسهم في زيادة قدرة المجتمع على تعبئة إمكاناته واستغلال طاقاته وتحقيق تطلعاته.
ولكي نحقق التنمية الثقافية  المنشودة، يجب أن ننطلق من عملية تغيير شاملة في ظل معطيات فردية ومجتمعية تحتاج إلى جهود حثيثة لبناء إمكانياتها وقدراتها وتوسيع نطاق أنشطتها وتنويع أهدافها وتطلعاتها. وعلى اعتبار أن علاقة الإنسان بالمجتمع هي علاقة اندماج وتكامل، فإن الأنساق التي يندمج فيها الفرد هي المجال الحيوي الذي سيحدد طبيعة مشاركته الإبداعية والمتمثلة في قدرته على تحديد طبيعة التغيير الثقافي  وفعله من خلال تغيير قيمه و معايير سلوكه ، وهي وتتمثل في  الأنساق  الاجتماعية التالية: النسق الأسري ، النسق العائلي ،النسق القرابي النسق الطائفي  ،النسق العشائري ،النسق القبلي و المجتمع المدني .
إن هذه الأنساق ترتبط فيما بينها بمنظومة ثقافية متعددة الأهداف ومتنوعة في أطرها وآلياتها، وتؤثر بمستويات مختلفة في حياة الفرد ، وفي أفكاره وقيمه وتحدد إمكانياته وقدراته و معايير سلوكه و أفعاله كما تؤثر في المجتمع بصفة عامة . و كما يرى  نيل سملسر فان القيم مهمتها توجيه الفعل الاجتماعي ، و المعايير تتولى ضبط هذا السلوك و بالتالي لابد من أيديولوجية تحرك الفعل  الاجتماعي "   4 "  بمعنى أنه لا بد من ثقافة عامة مكونة من أبعاد ثقافية فرعية . فالفرد يستخدم عقله في تفسير الأشياء وفي تحديد الفعل المفترض أن يمارسه لتحقيق أهدافه، و بما أن هذا الفعل يتشكل من خلال تفاعل الفرد مع محيطه الثقافي، ومن خلال المؤسسات و الأنساق التي يندمج معها، فإن المكون الاجتماعي /الثقافي للفرد مرتبط بهذا المحيط أي المجتمع . فالثقافة إذن هي الإطارُ الذهنيُّ والنفسيُّ (مفاهيم وقيم) الذي يدرِكُ الناسُ محيطـَهم من خلاله.
و بما أن الفعل يتشكل من خلال تفاعل الفرد مع محيطه الثقافي من جانب، ومن خلال الأنساق الاجتماعية التي يندمج معها من جانب آخر، فإن المكون الاجتماعي / الثقافي للفرد يرتبط بهذا المحيط ارتباطا عضويا.و عليه فان الثقافة الكلية لأي مجتمع من المجتمعات ما هي إلا نتاج للتفاعل بين مختلف الثقافات الفرعية للأنساق الاجتماعية المختلفة.
إذ أن هذه الأنساق ترتبط فيما بينها بمنظومة ثقافية متعددة الأهداف ومتنوعة الأطر والآليات ، وتؤثر بمستويات مختلفة في حياة الإنسان، وفي أفكاره وقيمه وتحدد إمكانياته وقدراته وسلوكياته و أفعاله  التي تنعكس على مجتمعه .  وتتشكل ثقافة المجتمع في النهاية من خلال عمليات الاتصال الثقافي و الانتشار الثقافي و التبادل الثقافي . و في الوقت ذاته يحتفظ كل نسق من الأنساق الاجتماعية بخصائصه الثقافية المميزة و التي لا تتعارض مع ثقافة المجتمع   .
التفاعل بين الأنساق الاجتماعية
و تعني الثقافة الفرعية أن هناك جماعة من الناس يشتركون في أنماط متميزة من القيم و المعتقدات، و تتميز طريقة حياتهم عن الثقافة الكلية التي تسود المجتمع الأكبر في بعض الأنماط السلوكية الخاصة بهم " 5 ". وتتفاوت من حيث الاتجاهات و الأهداف و تتباين من حيث فاعلية الوسائل المستخدمة لتحقيق تلك الأهداف و الغايات. و من جانب آخر  قد يغطي التشابه بين الثقافات في عدد كبير من تلك السمات عدة ثقافات تكون مجتمعة " منطقة ثقافية "  أو"دائرة ثقافية " واحدة ، بمعنى تمتد لتغطي منطقة جغرافية متنامية الأطراف تضم أكثر من مجتمع  كالثقافة العربية التي تمتد من المحيط إلى الخليج العربي تتكون من مجموعة ثقافات فرعية  ، فهناك ثقافة مجتمع شمال أفريقيا و ثقافة مجتمع الشام بمعناه الواسع و ثقافة مجتمع الخليج . والمنطقة الثقافية الواحدة قد تمثل منطقة إقليمية واحدة كدولة قومية كبيرة ( الوطن العربي )، أو منطقة لغوية معينة ( اللغة العربية ) أو إقليماً أكبر حجما ( كالاتحاد الأوروبي أو العالم الإسلامي ) " 6 ". و في داخل كل ثقافة فرعية أو دائرة ثقافية مجموعة من الثقافات كثقافة الحضر و ثقافة الريف و ثقافة البادية و ثقافة الساحل، و في داخل هذه الثقافات الفرعية أو الدوائر الثقافية ثقافات خاصة تختلف أيضا باختلاف المجتمع مكانا و زمانا. ولا تبقى هذه الثقافات الفرعية منعزلة و إنما يوجد بينها قدر كبير من الاتصال الثقافي و التأثير المتبادل بين الدوائر و الأنساق الثقافية و الاجتماعية و الثقافات المختلفة عبر الزمان أو عبر المكان.و في جميع الأحوال حتى يتمكن المجتمع من تحقيق تنمية ثقافية لابد من تفاعل بين الثقافات الفرعية من أجل إحداث  تغير ثقافي باعتباره كما يرى مالينوفسكي " العملية التي يتحول بواسطتها النظام القائم في المجتمع ، أعني حضارته الاجتماعية  و الروحية  و المادية ، من نموذج إلى آخر  " 7 " .فالتغير الثقافي يدل على صور التنوع التي تطرأ على الظواهر الثقافية كالمعرفة و الأفكار ،  و الفن و القيم و الاتجاهات و أنماط السلوك .
وفي المجتمعات الخليجية كغيرها من المجتمعات النامية نجد أن الثقافة بمعناها الواسع قد تشكلت من خلال التفاعل بين الفرد و الأنساق الاجتماعية. الذي  تشكل من خلال تفاعله مع محيطه الثقافي والمؤسسات التي يندمج معها، وعليه فإن المكون الاجتماعي / الثقافي في مرحلة ما قد يصبح إما داعماً لفعل التغيير أو معوقاً له، حاثاً لأنماط التفكير الحر والمبدع التي تنتج التنمية الثقافية  أو ضيقا  محصورا في أنماط ثقافية  ثابتة لا تفرز سوى الركود والسلبية "  8 ".
الفرد و التنمية الثقافية:
عندما نتساءل عن حاجة الثقافة للتغيير تدور في أذهاننا عدة أسئلة منها من أين نبدأ؟ هل نغير معارف الفرد وان نزوده بالمعلومات الحديثة ؟ أم نركز على قيمه و معايير سلوكه التي ستحدد اتجاهاته نحو القضايا المختلفة؟ أم نعزز سلوكيات معينة لديه؟ باعتبار أن الفرد هو أداة و غاية التغيير النسقي أو نغير ثقافة النسق برمته ؟
فمن المحقق  أن تغيير ثقافة الفرد تتطلب كل هذه الأمور مجتمعة، ويظل أن نحدد أي منها نبدأ به، ولكن لنا أن نتساءل بداية حول أهمية كل من المجالات المذكورة في  إحداث تنمية ثقافية في مجتمعات الخليج العربي ورفع قدرات الإنسان في تلك المجتمعات ومهاراته ومستوى مشاركته الإبداعية، والإجابة  هي من خلال تنمية معارفه و تحديث قيمه و اتجاهاته.
وإذا رأينا أن وسيلة التغيير هي اكتساب المعارف الحديثة، فهل يكفي أن نزود الإنسان بالمعارف؟ إن فكر الإنسان يتكون من معارف وأفكار وتصورات حول ما هو كائن، وما ينبغي أن يكون، ولديه أحكام موروثة ومكتسبة حول الأشياء والموضوعات المحيطة به، هذه الأحكام تشكل منظومة القيم التي يؤمن بها ويتصرف أو يسلك وفقاً لها، فهي موجهات لسلوكه حين تساعده على انتقاء الأحكام المناسبة لكي يعممها على المواقف التي تمر به.
إن أهم جزء في تكوين فكر الإنسان هو هذه القيم و المعايير التي تحدد له ما يجب وما لا يجب وما يأخذ وما يترك من الأمور.  حتى في مجال المعارف والعلوم ؛ فالقيم هي صمام الأمان التي يلجأ إليها الإنسان عندما تسير الأشياء بصورة أسرع من قدرته على التلاؤم معها، فيتمكن من التحكم في سرعة و اتجاه التغير بإخضاعه للإحكام العقلية الرشيدة، ثم يبدأ في البحث عن مبرر أخلاقي لها سواء بالموافقة أو بالرفض من خلال منظومة قيمه التي يعتنقها.
وإذا ما تأملنا  منظومة قيم الإنسان الخليجي ، سنجد أن أحكامه الأخلاقية تأخذ متصلاً بعيد الامتداد ومسافته الزمنية موغلة في القدم ولا تتيح للتغيرات مجالاً للنقاش العقلي بل تعطيها أحكاماً قيمية مسبقة،  مستخدمة في ذلك ما هو موروث وجاهز من الأحكام القديمة  أي  الفهم الاختزالي للتراث و الموروث الثقافي  في كثير من الأحيان .
وهنا تتمثل خطورة القيم في دورها في تحديد ما هو مرغوب وما هو مرفوض، وبالتالي تحدد طبيعة الاتجاهات نحو الأشياء، والتي تنعكس على السلوك وتحدد شكله. إلا أن هذه القيم لا يمكن أن تصبح جزءاً من فكر وشخصية الإنسان وتنعكس على سلوكه، إلا إذا كان البناء الاجتماعي بأنساقه الاجتماعية المختلفة ( أسرة ، عائلة ، قرابة ، طائفة ، عشيرة ، قبيلة ، مجتمع محلي، مجتمع مدني  )  قادراً على توزيع الموارد والفرص بصورة عادلة على السكان، وعلى سد حاجاته الأساسية كالغذاء والكساء والصحة والمسكن، وقادراً أيضاً على توفير حاجاته النفسية كالأمن والشعور بإنسانيته والاعتزاز بكرامته، وانتمائه لوطنه، هذا إلى جانب توفير حاجاته من التعليم والمعرفة والتدريب والمهارات والقدرات، وتوفير الفرص التي تمكنه من استخدام معارفه ومهاراته من خلال الأعمال المختلفة، التي يستطيع من خلالها إبراز مواهبه وإبداعاته، وبما يتيح له المشاركة بكل طاقاته المعنوية والعقلية في الحياة العامة، ومن خلال إتاحة الفرصة له للمشاركة في صنع القرار واتخاذه، وأن يوزع جهوده على نطاق أوسع من مجرد مراعاة مصالحة الذاتية والشخصية و أن يكون عنصرا فاعلا في التنمية الشاملة بكل أبعادها السياسية و الاقتصادية والثقافية والاجتماعية .
إن هذه الرؤية تقودنا إلى تناول الجانب الآخر، وهو جانب المجتمع أو الأنساق  الاجتماعية التي يجب أن تكمل الدور الفردي. فما هي طبيعة الأنساق التي تناسب التغيير؟ وما الذي ينقصها ؟ وما الدور المطلوب منها؟
إن التجديد المؤسسي هو طريق التغيير، فالثقافة ذات الاتجاه الواجد المعارض للتجديد هي الشكل السائد والمؤثر على عمل المؤسسات الاجتماعية، والذي يحد من قدرتها على التأثير على الفرد والأنساق الاجتماعية. فالمؤسسات الحالية إما أنها تقليدية في تركيبتها وفي أسلوب عملها ولا تناسب المرحلة، أو أنها جديدة شكلاً، ولكنها تقليدية في محتواها. فجهود التحديث والتطوير لم تمس جوهر المؤسسات المجتمعية، ولم تخلق الثقافة المؤسسية، حيث لا تزال ثقافة العائلة والقبيلة تؤثر بشكل كبير على أداء المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. إن الروح المؤسسية مفقودة في المجتمع الخليجي بصفة عامة وهذا يعد معوقا أساسياً للتنمية الشاملة.
لأنساق الاجتماعية و التنمية الثقافية:
إن التنمية تعني تغييرا اجتماعيا و ثقافيا شاملا، فهي تمس البناء الاجتماعي برمته و لكنها لا تعني التخلي عن القيم التقليدية و تبني قيم عصرية فحسب. و ذلك لأن بعض  القيم الثقافية و التقاليد الموروثة تتضمن جوانب ايجابية يتعين الإبقاء عليها لأنها تشتمل على سمات و خصائص فريدة تحدد " هوية المجتمع " و تعين أبعاد و ملامح شخصيته . بمعنى أنه ينبغي في إطار عملية التنمية الثقافية إعادة تفسير بعض التقاليد و القيم و المعايير والعمل على توجيهها وجهة جديدة تتفق مع متطلبات هذه العملية.
فالتقاليد يجب ألا تحول دون تنمية الثقافة و إنما يمكن استخدامها لانجاز التنمية الثقافية. بمعنى الاحتفاظ بعلاقة ايجابية مرنة موضوعية  مع التقاليد و القيم الثقافية دون تعصب أو تشنج . فسؤالنا يدور حول: كيف السبيل إلى دمج التراث الثقافي في مجتمعات الخليج بالحياة المعاصرة، ؟ و بخاصة في قضية الانتماء . ففي المجتمع العصري الانتماء و الولاء للدولة القومية، أما في المجتمع التقليدي فالولاء للعائلة و العشيرة و القبيلة. و من هذا المنطلق ليس من الصوابِ النظرُ إلى الانتماءِ القبلي على أنه متخلفٌ بالمقارنة مع الانتماء الوطني. إنما هو بديلٌ صحيحٌ في غيابِ دولةِ المواطنين. أما عندما توجدُ دولة ُ المواطنين فبطبيعةِ الحالِ تتراجع هذه الانتماءات القبلية. و في ذات الوقت نجد بعض المثقفين يؤثرون تعاليم القبيلة على أي رصيد معرفي اكتسبوه .كما أن القبيلة احيانا قد تختار حكيماً لها تضفي عليه صفة القدسية "  9" و ترشحه لكل مؤسسة رسمية تكون ممثله فيه . و يرى البعض أن التناقضات في الثقافة الخليجية ليس ناتجاً عن تداخل القيم و المفاهيم و الرموز الغربية مع القيم و المفاهيم و الرموز الثقافية في المجتمعات الخليجية   و إنما لأن  الثقافة الخليجية تحمل في طياتها  تناقضات كثيرة . فعلى سبيل المثال يمكن الاستدلال بشيء من الموروث الثقافي فيما يتعلق بالقيم و التقاليد لتبرير وضع معين ، و الاستدلال بشئ آخر من نفس الموروث الثقافي لتبرير وضع مختلف . فمثلا إذا أريد الإشادة بدور المرأة و خاصة النخب النسائية قيل " أنها أخت رجال "، و إذا ما أريد التقليل من دور المرأة و مكانتها استخدمت مقولة " النساء ناقصات عقل و دين "، فهنا استخدم الموروث الثقافي بصورتين متناقضتين تعتمدان على الزمان و المكان و الحدث و الشخص.
ولا شك أن إنتاج القبيلة المادي يلعب دوراً أساسياً في وجود هذا العنصر داخل الثقافة وهو الذي يضفي عليها طابعه الاجتماعي والثقافي. إن العنصر الثقافي المشار إليه، يملك مجموعة من الوظائف موزعة داخل السمات التي ينقسم إليها، وجدل التعامل بين الوظائف هو الذي يحدد الانتماء القبلي و خصائصه والواجبات المترتبة عليه بين الأفراد. وعندما تتغير حياة القبيلة المادية والفكرية والروحية، فإن هذا التغير يكون مجموعة من الوظائف الجديدة التي تفرزها عناصر الإنتاج الجديدة، الأمر الذي يقود إلى مجموعة من التغيرات في وظائف العنصر الثقافي القبلي (العصبية القبلية) ويطرح أمامه مجموعة من البدائل الثقافية، ويقوده إلى دائرة اجتماعية أوسع، مثل الانتماء إلى الطبقة أو الوطن والأمة.‏ فإذا حل الانتماء الطبقي، على سبيل المثال، بديلاً للانتماء القبلي فإن الثقافة تقوم بعملية التخلي عن العناصر الثقافية القبلية (الرابطة الدموية) لصالح مقولة الطبقة الاجتماعية أو لمقولة المواطنة كمقولات ثقافية، وتنتج عناصر جديدة تمت بصلات وثيقة للعنصر الثقافي الجديد.‏
وتؤدي هذه العملية إلي اضمحلال أو انزواء العناصر الثقافية القديمة غير القادرة على التفاعل مع التغير في البناء الاجتماعي. واكتساب عناصر  ثقافية جديدة  مرتبطة بالتغيرات الاجتماعية  في البناء الاجتماعي برمته ، الأمر الذي يؤدي إلى سيادة  و انتشار وظائفها داخل النمط الثقافي، ولكن عملية السيادة و الانتشار  هذه تتوقف على قدرة الثقافة على التخلي عن عناصرها أو بعضها أو اكتساب بدائل لها . فإذا امتلكت الثقافة القدرة على مد العناصر الجديدة بالوظائف التي يمليها طابع التغيرات الاجتماعية خلال انتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما و نموا ً، فإن العناصر الجديدة تحقق هيمنتها وتفرض سيطرتها، أما إذا كان التخلي ثانوياً أو هامشياً آنياً فإن العناصر الثقافية التي ضعفت  أو تلاشت، تظهر من جديد بوظائفها القديمة، وتؤثر في الإنسان بصورة تعزز فيها قيمها، وهنا يتحول الإنسان من انتمائه الراهن أو الحالي، إلى انتمائه القبلي عبر التسلسل التالي:‏
لانتماء الراهن: الانتماء للأسرة - الانتماء للفخذ - الانتماء للعشيرة - الانتماء للقبيلة، العودة إلى نظم وثقافة المجتمع الأهلي التقليدي. ويصبح ولاء الإنسان لقبيلته أقوى من ولائه لبلده أو وطنه أو أمته، وقد حدث ما يشبه هذا في بعض المجتمعات العربية المعاصرة كحالة انفصال سورية عن مصر شاهدا تاريخيا على الطابع الارتدادي "التراجعي" للثقافة في عملية التخلي والاكتساب. وثمة عمليات مماثلة في هذا الارتداد نجدها في واقع الأحزاب العربية الراهنة. والحقيقة أن هذه الخاصية في عملية الاكتساب والتخلي تأخذ هذا الطابع، لأن الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر أكثر تطوراً داخل الوطن العربي لم يتم على أساس فعل القوانين الداخلية وحدها فقط. كما أن الجديد لم يشكل نفياً للقديم على غرار ما جرى في المجتمعات الأوروبية، وإنما امتازت الحياة العربية المعاصرة بوجود وتعايش عدد من أنماط الإنتاج المتفاوتة في مستويات تطورها، وهذا يعود لعدة أسباب تاريخية لا مجال لذكرها. الأمر الذي أدى إلى تعايش العناصر القديمة والجديدة داخل النمط الثقافي، وإلى التعادل الوظيفي بين ما هو قديم وجديد في الثقافة. ويبدو هذا واضحا  في الشخصية  الاجتماعية العربية ،  وذلك باعتبار أن الشخصية هي المكان الملائم للعناصر الثقافية الاجتماعية الدينامية لممارسة وظائفها، وتظهر نتائجه في سلوك الفرد اليومي، فالإنسان غالبا ما يجمع بين النقيضين في مجموعة من ممارساته ومواقفه. فهو في بعض الأحيان يكون مؤمناً وشاكاً، يدعو إلى الحرية ويضطهد الآخر، يؤمن بتوفير الفرص ويزاول الوساطة ويقبل بها. يدعو إلى النزاهة ويقبل الرشوة وغيرها  .
بناء على ما تقدم يظهر لنا أن عملية التخلي والاكتساب " التثقف Acculturation " ، تنقاد وتوجه بما يسمي في    "علم الاجتماع الثقافي" بعملية الانقطاع والاتصال الثقافي، فالثقافات التي تتسم بظاهرة الانقطاع بين وظائف عناصرها تتأثر خلال عمليات الاتصال التي تقيمها مع الثقافات الأخرى على النحو الذي تقرره عناصرها ومحدداتها الفلسفية، بحيث يكون هذا الاتصال "غزواً" من جانب إلى جانب آخر، وتصبح هذه الثقافات مصدر تطعيم لهذه الثقافة، الأمر الذي يؤدي إلى خضوع عمليات التخلي والاكتساب " التثقف  "  في هذه الثقافة إلى إرادة الثقافات "الغازية" القوية.  ومن البديهي أن العناصر الثقافية الغازية عندما تحتل مواقعها داخل الثقافة الخليجية و العربية، على سبيل المثال، فإنها سوف تمارس وظائفها داخل شخصية الفرد العربي. فالثقافة الغربية، كثقافة "غازية" للثقافة العربية، تفرض مجموعة من قيمها واتجاهاتها و أنماط سلوكها على الإنسان العربي، مثل الإقبال على شراء المواد الاستهلاكية و المستوردة أو الملبس.
وما دمنا بصدد الحديث عن التخلي والاكتساب كواحدة من العمليات الهامة في التنمية الثقافية ، فإننا نود التوقف قليلاً عند التخطيط الثقافي، باعتباره الأداة التي تتحكم في سير العملية سالفة الذكر. وهو إذ يأخذ دوره هذا فإنه يعتمد على قاعدة عريضة من الخبرة والتجربة والنماذج التخطيطية التي يستأنس بها ويتحرك من أرضها في بناء نموذجه الجديد معتمداً على معرفة واعية بالتيارات العامة التي كانت تسود حياة الأمة ومعتقداتها الأساسية التي تدين بها، والمصطلحات والمفاهيم التي استخدمتها النماذج القديمة في تخطيطها وببرمجتها للثقافة، فالتخطيط الثقافي الناجح لا ينطلق من فراغ، ولا يعتمد على النماذج المستوردة  وحدها، أو باعتبارها نقطة البداية في تصميم نماذجه. ولا شك أن التراث العربي يمدنا بالقاعدة العريضة للتخطيط الثقافي ويساعدنا في إعداد نماذجه.‏
ونحن عندما نقرر هذه الحقيقة فإننا نريد توجيه الأنظار وروح البحث نحو التراث العربي لاكتشاف نماذجه القديمة في هذا الميدان. وهذا يعني بالنسبة لنا أن التراث العربي ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة في الدراسة وفي إثراء التخطيط الثقافي خلال تنظيمه لبناء نماذجه الجديدة، التي تأخذ على عاتقها ترشيد عملية التخلي والاكتساب داخل الثقافة العربية. وبهذا الخصوص نقول إن هذه النماذج لن نعثر عليها في الغرب  وتجربته الاجتماعية، فالغرب قد حصل على نماذجه في تراثه ، وإنما نعثر عليها في تجربتنا الاجتماعية وفي تراثنا الثقافي  " 10 ".‏
و على هذا النحو فان نقطة البدء في المشروع الثقافي العربي ، التحرك من الذات العربية وتراثها وتجربتها. فتطورُ الهويةِ القوميةِ وتراجعُ الانتماءاتِ القبليةِ يتم ُ بموازاةٍ مع تحركِ الدولةِ القوميةِ نحو دولة المواطنين. و في غيابِ جوابٍ وطنيٍ أو قوميٍ لحاجاتِ الناس على البقاء لا يمكنُ إلغاء الانتماءاتِ  العشائرية والقبلية بل يجب تفهمُها وفهمُ دورِها السوسيولوجي. أي لا بد من التأكيد على العناصر الثقافية الايجابية في كلتا الثقافتين (التقليدية والحديثة) و تدعيم العلاقات بينهما لتحقيق التكامل الاجتماعي  و التنمية الثقافية .
التحديات التي  تواجه  التنمية الثقافية
إن المنظومة الثقافية في المجتمعات العربية بصفه عامة و المجتمعات الخليجية بصفة خاصة تواجه مجموعة من التحديات التي تمثل معوقات أمام محاولات التنمية الثقافية، ويمكن تلخيصها في التالي:
1-             ظاهرة " السلطوية " التي لا تشجع و لا تساعد على تنمية روح الخلق و الإبداع. فالبناء الاجتماعي السلطوي يقدس القوة و الثروة و يضعف أخلاقيات المعرفة و الثقافة
2-               لإغراق في الخصوصية و التقديس الاختزالي للتراث، أي التركيز على محاكاة الماضي دون الاهتمام الحقيقي بالمستقبل،               

      3-                                الخوف ، الإنسان الخائف لا يمكن أن يكون منتميا لأي شئ ، إذ أنه مشغول بذاته و غير فاعل ،
4-                               المبالغة في تضخيم الذات على جميع المستويات : مجتمع ، جماعة ، فرد  أو حتى رأي ،
5-                                غياب سياسات رشيدة تضمن تأصيل القيم و الأطر المؤسسية الداعمة للمجتمع المعاصر
6-                               عدم وجود نظم فعالة للابتكار و إنتاج المعارف ،
7-                               تعطيل القوانين التي تضمن للفرد حقه في المعرفة و في حرية الفكر و التعبير و الرأي،
8-             ضعف الصفوة السياسية على اختلاف مصادر شرعيتها أو أيديولوجياتها و موقعها من السلطة: صاحبة لها أو معارضة، فغالبا ما تكون محافظة إلى درجة الجمود بغض النظر عن خطابها المعلن الذي يدعو إلى التغيير و التطوير و الإصلاح،
9-             ضعف النظام التعليمي و عدم استيعاب التكنولوجيا المعاصرة،  و عدم وجود فلسفة تربوية تعليمية شاملة تحدد لماذا نتعلم ؟ و ماذا نتعلم ؟ و كيف نتعلم ؟
التنمية الإنسانية  كمدخل للتنمية الثقافية
تعرض تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول 2002 لأهم التحديات التنموية التي تواجه البلدان العربية في مطلع الألفية
الثالثة ،  و تمثلت في نواقص ثلاثة :  الحرية  ،  المعرفة  ،تمكين المرأة  "  11 "
  و يكمل التقرير الثاني المسيرة بتحديد بناء مجتمع المعرفة كأحد أهم التحديات التي تواجه المجتمعات العربية  ويبدأ بتعريف مفهوم المعرفة و يبين أن مجتمع المعرفة  هو ذلك المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة و إنتاجها و توظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي : الاقتصاد ، و المجتمع المدني  و السياسة ، و الحياة الخاصة ، وصولا للارتقاء بالحالة الإنسانية باطراد ، أي إقامة التنمية الإنسانية . فالمعرفة هي سبيل بلوغ الغايات الإنسانية الأخلاقية الأعلى : الحرية و العدالة والكرامة الإنسانية .
و عليه فان التنمية الثقافية تتحقق من خلال توفر خمسة أركان:
1-   إطلاق حريات الرأي و التعبير و التنظيم و ضمانها بالحكم الصالح،
2-   النشر الكامل للتعليم ، راقي النوعية مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي و للتعلم المستمر
3-   توطين العلم و بناء القدرة الذاتية في البحث و التطوير التقني في جميع النشاطات المجتمعية ،
4-   التحول نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية و الاقتصادية العربية،
                                                5-    تأسيس نموذج معرفي عربي عام، أصيل، منفتح و مستنير.
و يخلص التقرير إلى إن المعرفة تكاد تكون الفريضة الغائبة في أمة العرب الآن.  ومن أراد العزة لأمة العرب في العصر الآتي فليسهم مخلصا و مجتهدا، في إقامة مجتمع المعرفة في الوطن العربي.
أما إذا ما أردنا أن نقوم بالتغيير من اجل تنمية ثقافية فاعلة لابد أن نقوم بالتغيير بأنفسنا كأمه عربية مسلمة ذات ثقافة فإن ذلك يعني أن الخروج من دائرة التخلف و الجمود تحتاج إلى عقل جديد و ثقافة جديدة  و فكر جديد، أي خطاب جديد يعبر عن هذا العقل و الفكر و الثقافة.
 فما العمل ؟ يمكن أن يتحقق ذلك من خلال عدة إجراءات منها :
1-  حتى نتغير لابد من المواجهة أو التخلص من الأوهام الكبيرة في الخطاب السياسي وهي: وهم السيادة، وهم المؤامرة، وهم السلطة وهم التميز و الخصوصية و التفرد،  وهم الزعامة،
2-     دعم القيم المعززة و الباعثة على الفعل و الإبداع في جميع قطاعات و مؤسسات المجتمع المرتبطة بالعلم و العمل و الإنتاج
3-      تأكيد و تعزيز النزعة العقلانية في التفكير و التحليل و تأسيس التجريب كأساس على البرهنة العلمية وصولا إلى القوانين (إبن خلدون )
4-      مواجهه التبعية ( اقتصادية / سياسية / اجتماعية / ثقافية ) وصولا إلى الاستقلال الحق،
5-     تحديد رؤية جديدة لآلية العقل المنتج   كنموذج تصوري و ممارس عملي ( اليابان / الهند) ،
6-     أن يكون النقد الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي منطلقا من آلية اجتماعية / ثقافية متجددة قادرة على مجاراة   و تقبل ثقافة العصر
7-   أن ننظر إلى أنفسنا كعرب باعتبارنا أمة ضمن أمم و لسنا بأفضل.. أي رؤية العالم كما هو لا كما نرى أنه ينبغي أن يكون من زاوية محدودة ضيقة،
8-      إيلاء أهمية للتعليم  العصري عند التخطيط للتنمية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية ،
9-   إدماج البعد الثقافي في العملية التنموية بأكملها، وذلك في سياق يؤكِّد أهمية التفاعل بين الثقافة والتنمية، ويُرسَّخ الوعي بالأهمية الجوهرية التي تتمتَّع بها الثقافة في وضع سياسات تنموية ثاقبة تضمن تحقيق تنميةٍ بشريةٍ مُستدامةٍ تتأسَّس على القيم الثقافية الوطنية الثَّرية وتنفتحُ على ثراء التنوع الثقافي الإنسانيِّ، وتطور الحياة ،
10- إضاءة قيم الحرية والعدل والمساواة والسَّلام، ومبادئ حقوق الإنسان في الثقافة الخليجية ، وتعزيز اندماجها وحضورها في الأنشطة الإنسانية جميعاً، وفي الإبداع الثقافي وتجليات السُّلوك، وهو الأمر الذي يتطلَّبُ الاستمرار في إجراء استبدالات تفضي إلى تعزيز حضور منظومات القيم الفكرية والثقافية والاجتماعية التي تكفل الانتقال إلى المجتمع المدني الذي يمكن أنْ يحتضن عملية بناء المجتمع الديمقراطي العصري ،
11- تمكين المثقفين الخليجيين، والمؤسسات الثقافية الخليجية الرسمية و غير الرسمية، من توظيف الثقافة والمعرفة توظيفاً جاداً يسهم، بفاعليةٍ، في بناء المجتمع المدني الذي يمثَّل منطلقاً لا بدَّ منه، وقاعدةً ضرورية، لبناء مجتمع ديمقراطي حديث، ومجالاً حيوياً لحضورها ولقدرتها على أداء دورها.
و على هذا النحو فان التنمية الثقافية أصبحت ضرورة ملحة، يجب ألا تتم بمعزل عن الشعوب و تطلعاتها و مؤسساتها و نظمها و أنساقها الاجتماعية.
اذن نحن في حاجة إلى تغيير ثوري يحدد العلاقات التي تربطنا بأنفسنا من جهة و بالعالم من جهة أخرى.
نحتاج إلى ردم أو تجسير الهوة بين الفكر و الواقع انطلاقا من نقد الفكر العربي .
للخروج من دائرة التخلف و الجمود لابد من عقل جديد و ثقافة جديدة و فكر جديد.
أي خطاب جديد يعبر عن هذا العقل و الفكر و الثقافة.و يخلق المواطن المنتمي، فالتنمية يمكن تحقيقها عن طريق الآخرين أو بمساعدتهم و لكن الانتماء لا يتحقق إلا من خلال الثقافة.   
ولكي نحقق التنمية الثقافية المنشودة ، يجب أن ننطلق من عملية تغيير شاملة في ظل معطيات فردية ومجتمعية تحتاج إلى جهود حثيثة لبناء إمكانياتها وقدراتها وتوسيع نطاق أنشطتها وتنويع أهدافها وتطلعاتها.
___________________________________________________________________________________
قائمة المراجع
1-www.isesco.org.ma/pub/Arabia
2-عبد الباسط عبد المعطي، الوعي التنموي العربي: ممارسة بحثية، القاهرة، دار الموقف العربي، 1982، ص 36 و ما بعدها.
3-محمد الجوهري، علم الاجتماع و قضايا التنمية في العالم الثالث، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص 91 و ما بعدها.
4-Neil Smelser, Sociology ,P prentice-Hall, London , pp-171-182.
5-محمد عباس إبراهيم، الثقافات الفرعية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1997، ص، 127.
6-محمد الجوهري و علياء شكري، التغير الاجتماعي، دار قطري بن الفجاءة، قطر، 1986، ص 305.
7-المرجع السابق، ص 146.
8- جهينه سلطان سيف العيسى ، التنمية الإنسانية و تمكين المرأة : التحديات و الرؤى المستقبلية ، ندوة التحولات المجتمعية و جدلية الثقافة و القيم ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و التراث ، قطر ، 2007 ، ص 170 .
9- أسامة عبد الرحمن ، النفط ، و القبيلة و العولمة ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ، لبنان ، 2000 ، ص 56 .
10 – عز الدين دياب ، أنثروبولوجيا التنمية الثقافية ، مجلة الموقف الأدبي ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، سوريا ، العدد 433 ، مايو 2007  م
11- تقرير التنمية الإنسانية 2002، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق