إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

هجرة الكفاءات العربية


ورقة عمل مقدمة إلى

منتدى الدوحة السادس للديمقراطية و التنمية و التجارة الحرة  

الدوحة   -   قطر

11-13 أبريل  2006

   

تعد ظاهرة هجرة الكفاءات العربية نزيف تعاني منها التنمية في الوطن العربي منذ عدة عقود. و نالت هذه الظاهرة اهتمام الباحثين و الدارسين الاجتماعيين، و كذلك بعض المسئولين، و عقدت الندوات و المؤتمرات منذ الثمانينيات من القرن العشرين. ونتج عنها تحليل عميق للظاهرة و دوافعها و تحديد الجوانب السلبية و الايجابية لها .

تتناول هذه الورقة موضوع هجرة الكفاءات العربية خارج الإطار التقليدي الذي تناول هذه الإشكالية من منظور اقتصادي و فني في أغلب الأحيان، كضعف الإنفاق على البحث العلمي أو تحسين الظروف الاقتصادية. فتتناول هذه الورقة الإشكالية باعتبارها ظاهرة سياسية أسبابا و نتائج، ومحاولة اقتراح بعض الآليات التي تمكن المجتمعات العربية الاستفادة من الكفاءات المهاجرة في التنمية المستدامة.

 نبدأ بطرح تساؤلات حول المفهوم، فهل هو ” هجرة الكفاءات ” أو هجرة العقول ”  أو ” استنزاف الكفاءات ” أو ”استنزاف العقول"، أو ” سرقة العقول ” أو ”استقطاب العقول ”  أو ”إهدار العقول"، و غيرها من المفاهيم التي اختلف حولها علماء الاجتماع و الاقتصاد و السياسة.  

فتعرف الموسوعة البريطانية ” هجرة العقول ” بأنها ” انتقال أشخاص تلقوا تعليما جامعيا أو مهنيا، اختاروا أن يغيروا البلد أو المجال الاقتصادي عامه من أجل رفع راتبهم أو ظروف عيشهم " (1).

أما منظمة التعاون و التنمية الدولية فهي تميز بين مفهوم ” تبادل العقول ” و مفهوم ” إهدار العقول ” (2 )، باعتبار أن تبادل العقول أمر طبيعي ناجم عن تفاعل الحضارات و حوار الثقافات و حين يكون له اتجاه واحد يصبح بالنسبة للبلد المصدر هو ما يطلق عليه ب ” هجرة للعقول “.

في حين أن منظمة اليونسكو تعرفه بأنه ” شكل من أشكال التعاون التبادل العلمي الشاذ أو غير السليم بين الدول، حيث يتميز بتدفق هجرة العلماء في اتجاه واحد نحو الدول المتقدمة ” (3).

          إذن يمكن أن نعتبر ” هجرة العقول ” هي هجرة الكفاءات و الخبرات، و التي تشكل واحدة من أبرز القضايا حضورا على قائمة القضايا الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي تواجه المجتمعات العربية و التي تؤثر على التنمية تأثيرا مباشرا. 

 تعد هذه الظاهرة من اخطر الظواهر التي تتعرض لها المجتمعات العربية، فمضمون الظاهرة هو إفراغ المجتمعات العربية من مواردها البشرية و فنيها و علمائها القادرين على إحداث التنمية المستدامة. و الذي بدوره يترتب عليه زيادة حدة التخلف من جانب، و من جانب آخر يزيد من الاستعانة و الاعتماد على الخبرات الأجنبية في التنمية الذي يشكل هدرا إضافيا على الاقتصاد الوطني و تبعية سياسية وثقافية مستمرة تزيد من حدة التخلف.

و حتى يمكن فهم أبعاد هذه الظاهرة نستعرض بعض الحقائق الإحصائية التي نشرتها بعض المنظمات الإقليمية و الدولية و منها:

      إن 37 % من هجرة أصحاب الكفاءات تنتمي إلى دول عربية و افريقية.

      إن 54% من الأطباء و 26 % من المهندسين، و 17% من العلماء من مجموع الكفاءات المتخرجة تهاجر إلى أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية و كندا.

      إن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم.

      إن 34% من مجموع الأطباء المهاجرين  العاملين في بريطانيا هم من الأطباء العرب.

      إن ثلاث دول غربية هي الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا و كندا تستقطب 75% من الكفاءات العربية المهاجرة.

    قدرت خسائر الدول العربية من جراء هجرة العقول العربية بحوالي مائتي مليار دولار وفق تقرير منظمة العمل العربية لعام 2006م.

و تؤثر عوامل الجذب و الطرد على هجرة الكفاءات, و تتسم الهجرة بأنها
      أ – انتقائية: أي أن أفضل العناصر البشرية هي التي تهاجر،  إما لأنها قادرة على الهجرة   أو أن الطلب عليها   في الخارج يتجه إلى انتقاء العناصر الجيدة.

      ب – تلقائية: بمعنى أنها غير منظمة رسميا فلا توجد مؤسسة دولية أو إقليمية دائمة تعمل على تنظيم انتقال الموارد البشرية بين الدول.

           كما أن هناك مجموعة عوامل اقتصادية و سياسية و اجتماعية و شخصية تؤدي إلى الهجرة.  فالهجرات المبكرة التي بدأت من سوريا و لبنان و مصر و العرق ترجع إلى أسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. في حين أن العامل السياسي هو العامل الحاسم في هجرة العقول المعاصرة المتمثل في الحروب و الانقلابات العسكرية و غياب الحريات و الديمقراطية و قوانين الطوارئ و مكافحة الإرهاب.

           فقد عانى لبنان من هذه المشكلة أثناء و بعد الحرب الأهلية في السبعينيات التي تركت آثارها على الفرد و المجتمع على حد سواء. و تعاني ليبيا و الجزائر و سوريا و العراق أيضا من هذه المشكلة أي الهجرة لأسباب سياسي. فعندما سيطرت الحكومات القمعية على الجامعات و مراكز الأبحاث، و انتهكت حقوق العاملين و هم صفوة العلماء و الباحثين و المفكرين        

و الأدباء سواء بالاعتقال أو بالتصفية الجسدية أو بمصادرة الأموال أو بالإقامة الجبرية كانت الهجرة هي الخيار الأفضل.

                   و من جانب آخر فان الجامعات و مؤسسات التعليم العالي و مراكز البحوث عانت و تعاني من غياب الحريات الأكاديمية و تحولت إلى مراكز أمنية تدار من قبل رجال الأمن و المخبرون السريون بحجة حماية الأمن القومي اضافه إلى ذلك خضعت الأبحاث و المؤلفات و المجلات العلمية للرقابة و المصادرة الذي خلق مناخا غير ملائم للإبداع و التفكير الخلاق.

  و عليه فإن البحث في مسالة هجرة الكفاءات أو العقول العربية يطرح التساؤل الآتي: لماذا تفشل أو تخفق الدول العربية في جذب الكفاءات المهاجرة في حين نجحت دول أخرى ؟

    لقد فشلت سياسة الجذب أو الاستقطاب في الدول العربية في توطين الكفاءات.فعلى سبيل المثال اختلفت آلية إنتاج الهجرة بعد حرب الخليج الثانية عاما 1990م.

     ان سياسات الجذب التقليدية التي كانت تنظر إلى الكفاءات العربية المهاجرة كرأسمال بشري مستثمر، أصبحت عديمة الجدوى. حينما ارتبطت سياسة الاستقدام بالشأن الأمني. اضافه إلى إن عدم الاستقرار السياسي و الأمني في المنطقة دفع الكثيرين إلى الهجرة مرة ثانية.

    و من جانب آخر فقد انخفضت الهجرة إلى الغرب عموما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م نتيجة للقيود الصارمة التي وضعت على الهجرة و بخاصة على المهاجرين العرب المسلمين.

          لقد كيفت قوانين مكافحة الإرهاب Anti Terrorist Actو القانون الوطنيPatriot Act في الولايات المتحدة الأمريكية و كندا و بعض الدول الغربية و استراليا في الحد من الهجرة من جهة، و دفعت ببعض المهاجرين العرب و المسلمين على وجه الخصوص إلى الهجرة العكسية إما لأوطانهم الأصلية أو لمناطق جذب أخرى يتوفر فيها الأمن و الحرية والعدالة.

  اذن  كيف يمكن جذب أو إعادة الكفاءات العربية المهاجرة إلى الوطن العربي ؟؟ علينا أن نبحث أولا في العوامل الرئيسة التي تدفع إلى الهجرة.

          فنجد إن طبيعة الأبنية الاجتماعية السلطوية التقليدية التي تكبح الحريات و تقيدها و تعزز الاغتراب الاجتماعي و السياسي يعد عاملا أساسيا لهجرة الكفاءات.

 اضافة إلى غياب الديمقراطية و عوامل إضعاف المشاركة التي تظهر في:

     * السلطة المركزية التي كرست الفرد الرئيس أو الحزب الواحد و ألقت التعددية و قضت على الديمقراطية و محاولات الإصلاح؛

     * الانغلاق الفكري و التعصب و نفي و إقصاء الآخر أدى إلى خوف المثقفين و النخب و تراجعهم عن إعمال العقل و النقد و الإبداع و التفكير الحر؛

   * الرقابة و مقص الرقيب عزز عدم التجديد و المواربة و العزلة و الاغتراب مما اثر بدوره على الهجرة بحثا عن حرية التعبير؛

   * استمرارية قوانين الطوارئ و مكافحة الإرهاب في بعض الدول العربية يعد أحد العوامل الحاسمة في الهجرة.

  فإذا نظرنا إلى هذه العوامل التي أدت إلى هجرة الكفاءات إلى الهجرة نجدها مشابهة للعوامل المؤدية إلى الهجرة العكسية اليوم من الغرب المتمثلة في قانون الوطنية و قوانين مكافحة الإرهاب التي تسمح بالحجز و الاعتقال ومراقبة الاتصالات و مصادرة أجهزة الكومبيوتر و الوثائق الشخصية و المفكرات ومراجعة حسابات البنوك والتحويلات ومراقبة الأبحاث اضافة إلى منع البحث العلمي و الأكاديمي في المجالات الاستراتيجية كالفيزياء النووية و علوم الفضاء والهندسة الوراثية و غيرها.

   و بهذا الوضع أصبحت الفرص مواتية للدول العربية المنفتحة و المتجهة إلى الإصلاح و بها هامشا حرية,  تفعل القوانين وتحترم حقوق الإنسان لجذب تلك الكفاءات بشرط توفير البيئة الآمنة سياسيا واجتماعيا و ثقافيا.

   و لا شك في تأثير هجرة الكفاءات العربية على خطط التنمية العربية و يتطلب إيجاد حلولا فعالة و إجراءات عملية للحد من هذه الظاهرة. ويصبح وضع إستراتيجية عربية لمعالجة هذه الظاهرة أمرا ملحا.

و تجدر الإشارة إلى إن هناك بعض المحاولات التي سعت إلى استعادة واستقطاب الكفاءات العربية المهاجرة كمبادرة جامعة الدول العربية و المنظمة الإسلامية للتربية و العلوم و الثقافة و الاتحاد البرلماني العربي والجمعية الملكية بالأردن، كما أن مصر عقدت مؤتمرات للمغتربين، إلا إن هذه المحاولات لم تحقق أهدافها في جذب الكفاءات، إما لسوء التنظيم أو لعدم التخطيط الجيد أو أن الوعود تجاوزت الواقع أو لغيرها.

 إلا أن هناك استراتيجيات لجذب الكفاءات المهاجرة وضعتها دول آسيوية و افريقية حققت نجاحا إلى حد معقول.  ويمكن الاستفادة من تلك الاستراتيجيات؛ كالاستفادة من خبرات و مهارات الكفاءات المهاجرة دون إرغامها على العودة كما فعلت شبكة جنوب أفريقيا للمهارات في الخارج، فمن خلال عضوية هذه الشبكة يقدم المهاجرون خدمات و استشارات فنية و بحثية واقتصادية لنظرائهم في الوطن دون الحاجة إلى العودة و الاستقرار في الوطن.

    و بناء على ما سبق يمكن اقتراح بعض الآليات التي قد تسهم في جذب الكفاءات المهاجرة على النحو التالي:

        وضع  سياسة تعتمد على الحوار بين المعنيين في الدول العربية و الكفاءات المهاجرة و دعوتها لمناقشة قضاياها التي دعتها   للهجرة باعتماد مبادئ الصراحة و الشفافية لشرح طبيعة الواقع العربي الحالي دون تزييف بصورة لا تعطي المهاجر وعودا غير قابلة للتنفيذ مع ضمان حماية آمنه و حريته؛

         إنشاء مؤسسة عربية مستقلة غير تابعة لدولة ما للكفاءات العربية ترتكز على قاعدة بيانات دقيقة، تمكن الاتصال بالمهاجرين و ربطهم ببعض، اضافة إلى الاستعانة بهم في التدريس الجامعي و إجراء البحوث و الدراسات الفردية و المشتركة والاستشارات و مشاريع التنمية؛

         تنظيم مؤتمرات للمغتربين العرب و دعوة الكفاءات العربية المهاجرة للفعاليات في الوطن العربي من مؤتمرات و ندوات و غيرها للاستفادة من خبراتها و بخاصة في مجال نقل التكنولوجيا أو في تنفيذ المشروعات و أيضا لربطهم بالوطن العربي من خلال الزيارات القصيرة؛

     * صياغة سياسة عربية تنموية للموارد البشرية آخذه في الاعتبار التكامل بين الموارد البشرية     العربية المحلية و المهاجرة، و الذي بدوره يحتاج إلى إجراء مسح شامل للكفاءات العربية المهاجرة يحدد حجمها وأماكن إقامتها   و ميادين تخصصها و مجالات عملها؛

      وضع برامج وطنية لمواجهة هجرة الكفاءات و جذبها؛

       توسيع إطار المشاركة السياسية، و السعي من أجل وجود حقيقي لحقوق الإنسان العربي، و تأصيل الرؤى الرشيدة، و تحقيق الوفاق الوطني حول أهداف المجتمع من خلال تجربة ديمقراطية حقيقية، مع تبني إستراتيجية وطنية للتنمية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية تدعم المشاركة و تنهض بالتعليم والبحث العلمي و التقني وغيرها مما تشجع الكفاءات المهاجرة على العودة إلى أوطانها.

     * تطوير و تحديث قوانين الهجرة و الجنسية و تيسيرها، مع السعي الجاد نحو تطوير نظم الإدارة و التعليم  و الصحو التأمينات الاجتماعية.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق