إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 6 يناير 2012

اتجاهات التنمية السياسية في ليبيا

عمر إبراهيم الفتحلي
المؤسسة الدولية للنشر و المعلومات
مطابع سجل العرب ، القاهرة 1984م

ركز الباحثون في السنوات الأخيرة على مفاهيم التغيير و التنمية و التحديث . و أصبح الإهتمام بهذه المفاهيم يبرز بشكل شامل في العالم النامي إما كنتيجة لما لدى زعمائه من آمال و رغبات  للتغيير أو لما لدى الجماهير من تطلعات ، و ما تفرضه عليهم من ضغوط ، خاصة إذا ما اعتبرنا ما لهذه المفاهيم من انتشار و قبول لدى الغالبية العظمى من أفراد المجتمعات .و قد حاول الكتاب و الباحثون في العالم الأكثر نموا المشاركة باهتماماتهم في محاولات جادة لفهم هذه المفاهيم و إعطائها القيمة العملية المفيدة للمهتمين بها .
و باستعراض مجالات التنمية السياسية التي هي موضوع هذة الدراسة في السنوات العشرين الماضية ،استنتج أحد الكتاب أن رغم كثرة ما كتب عن التغيير و التنمية و التحديث ، فان تطبيقها لم يواكبه النجاح إلا في حالات محدودة .و يرجع ذلك إلى أن مختلف الآراء و النماذج و الخطط قد تم طرحها على المستوى النظري فقط ، أو أن إستخدامها قد تم من قبل غرباء " مهتمين " سواء من الشرق  و الغرب  وصدموا عند محاولة تطبيقها بكونها لاتمت الى واقع الدول النامية صاحبة الشأن . فغالبا ما كانت هذه الإقتراحات أو النماذج صيغا  من الخارج لتغيير المجتمعات النامية ذات خصائص أساسية و ظروفا معينة للتنمية لم تكن في أغلبها متوفرة في العالم النامي ، أو لا تتناسب مع المعطيات الموجودة فيه ، مما أدى لأن تصبح هذه النماذج في أغلبها عائقا أمام التغيير المأمول بدلاً م أن تكون دافعا له .
و يتفق أصحاب  تلك النظريات مع " روستو "  Dunken Rustow في أنه ليس هناك نموذجا واحدا للتنمية ، أو مجموعة شروط شاملة و ثابته له . و من ثم توصل بعض علماء الاجتماع  في الغرب الى بعض التعميمات التي تعتمد على أنظمة سياسية و إقتصادية معينة إفترضوا أنها تصلح كأنظمة للبلدان النامية لأنها نجحت  في البلدان  المتقدمة  التي تميزت بخصائص بنائية مختلفة
وترتب على ذلك الخلط  بين  مفهوم التنمية السياسية و التحديث الاجتماعي السياسي ، و كذلك بين التنمية السياسية و التحديث السياسي ، وأيضا  بين التنمية السياسية و التغريب Westrenization- نسبه الى الغرب -.
وتشير التنمية السياسية في هذه الدراسة الى المرحلة التي يكتسب النظام السياسي فيها القدرة على إدخال التغيير المستمر ، و إشباع المتطلبات الجديدة ، و إستيعاب أو إمتصاص التغيير الملح .  حيث ان النظم السياسية تواجه دائما مطالب متجددة كالمساواة و العدالة و المشاركة  التي  لابد من تحقيقها و استيعابها بالطرق السليمة . و الذي بدوره يتطلب  المرونة الكافية في النظم السياسية تسمح لها بالتغيير مع خصائص شعوبها ، متوافقة  مع المتغيرات التي تطرأ علبها حتى تتمكن من خلق قنوات تستوعب و تتبنى هذه التغيرات ، و بالتالي تخلق الدوافع المتجددة لدى الشعوب  والتي بدورها تكسبها قوة الإستمرارية والنمو .إن التنمية السياسية في هذه الدراسة هي ذلك المفهوم الذي من خلاله تتوافق مجموعة من المتغيرات السياسية و الاجتماعية و الإقتصادية و الإدارية لتحول دون وقوع أية ثغرات أو فجوات في الهيكل العام للتنظيم أو المجتمع أو بين التنظيم و المجتمع .
و لطالما كان الحكم مسألة بعيدة عن مدى القدرة و الفهم لدى غالبية شعوب العالم الثالث ، و أن حقوق و مسئوليات كل من القائمين على التنظيم و الشعب أمورا غامضة ، و أن القيود و القوانين التي تنظم الأمور -أو تعيق تحقيقها - يمكن تفاديها بكل يسر عبر الإتصالات و العلاقات الشخصية ، مما يؤدي ال صعوبة تحقيق  التنمية السياسية .  بالإضافة الى أن التنمية السياسية ترتبط  بتحديث الإدارة ، مما يزيد الوضع  صعوبة . و بالتالي فإن " الإدارة المستوردة " لن تحل مشكلة الحكم في البلدان النامية على الإطلاق .
وكان الوضع في ليبيا ( منذ إستقلالها و الى نهاية العهد الملكي ) شبيها بأوضاع البلدان النامية . فالهوة بين السلطة و الشعب عميقة و واسعة ، و العلاقة بينهما مشوبة بالغموض و عدم الفهم . فالإدارة سلطوية في أساليبها و برامجها ، و بيروقراطية معقدة في تركيبها و لوائحها و قوانينها . تتولى قيادتها عناصر تقليدية تستمد شرعيتها من  السلطة التقليدية المرتكزة على العائلة و القبيلة و الثروة و الدين و السن . و تنعكس هذه الخصائص على كافة مراتب السلطة في ليبيا . و قد أبرزت هذه القيادات ولاءاً للقواعد التقليدية و القيادات السياسية العليا ، مما ينفي اي احتمال لإيمانهم أو قبولهم بالتغيير أو التحديث في كافة المجالات أو المؤسسات .
أما غالبية المجتمع و الذي تغلب عليه الصفة التقليدية ، فقد نظروا الى الحكم  و السلطة من خلال قياداتهم . فالمكانة الإجتماعية للقيادات و الخصائص الفردية للقادة ، ودرجة قبولهم في المجتمع المحلي كانت في غاية الأهمية عند تقييم الإجراءات الحكومية التي يتولونها و إعتبارها أمرا مشروعا.وعندما تكون برامج السلطة بعيدة عن المصلحة المباشرة للجماعات المحلية ففي الغالب ما تكون نظرة المجتمع لهذه البرامج أو القائمين عليها نظرة سلبية ناقدة أحيانا و لا مبالية أحيانا أخرى . و في جميع الحالات كان تحريك الجماهير أو الإتصال بهم يتم عن طريق القيادات أو المؤسسات التقليدية المحلية ، التي بدورها تمثل الصلة الوحيدة بين السلطة و الشعب . وعلى ذلك فإن تقييم الشعب للسلطة العليا يتم من خلال تقييمه للقيادات المحلية المتصلة بالسلطة . مما جعل تحدي مثل هذه القيادات أو المؤسسات التقليدية بشكل فعال من القاعدة أمرأ صعبا ، بل يستوجب التقليل أولا من وزن هذه القيادات و المؤسسات التقليدية . وحتى يتمكن من التخلص من هذة الروابط التقليدية فإن بامكانه ان يتولى الرقابة و التوجية و إحداث التغيير و التجديد من أسفل اي من القاعدة ، و بذلك يتم الوصول الى التنمية و التحديث  المنشود .لذلك فقد قررت القيادات الثورية الجديدة( بعد أول سبتمبر 1969 ) أنه لابد من فرض التغيير من أعلى  لتحديث مراتب السلطة . و بذلك تم إبعاد العناصر التقليدية و المتعاطفين معها من المناصب القيادية في الحكم المركزي و المحلي و استبدالهم بعنصر أصغر سناً و أكثر ثقافة من بين الذين يشاركون النظام الجديد قيمه و إلتزاماته .و لم يجر إختيار هذه العناصر على اساس الخلفية العائلية او القبلية أو الإقتصادية بل لمهاراتهم و قيمهم التقدمية و عدم إرتباطهم ببنى السلطة التقليدية . أما بالنسبة للمؤسسات التقليدية فقد عمل النظام الجديد على التقليل من اهميتها أو إلغائها . لذلك فقد تم الغاء النظام القبيلي التقليدي و استبداله بتقسيم إداري جديد ذي إرتباطات أوثق بالسلطة المحلية أو المركزية . و بذلك تمكن من نزع الثقة من القيادات التقليدية و مؤسساتها باعتبار أنها تفتقر الى القدرة على العمل و وضع البرامج  و إحداث التغيير .
و حتى يتم خلق بدائل للمؤسسات و الوحدات التقليدية ، تم إنشاء تنظيم سياسي و إداري  جديد و خلق تنظيمات شعبية أخرى لمختلف قطاعات الشعب ، بقصد خلق قنوات جديدة للانتماء الشعبي و بناء مؤسسة السلطة السياسية و الإدارية التي تتولى قطع الطريق أمام القيادات التقليدية و البيروقراطية القديمة من تولي السلطة .
و لقد انعقدت الآمال على ان تعمل القيادات المحلية الجديدة كأدوات للتغيير والتحديث ، و خاصة في المناطق الريفية حيث تهيمن القيادات التقليدية على مراكز السلطة ، و ان تتمكن من تحقيق أهداف النظام الثوري و بناء الدعم الشعبي للسلطة الجديدة . و كان يؤمل أن يتمكن التنظيم السياسي الجديد المتمثل في الإتحاد الإشتراكي من خلق قنوات جديدة للإتصال بين الشعب و السلطة ، و أن يتولى تحرير الجماهير من قيود المؤسسات التقليدية ، و أن يكون عاكسا لمطالب الجماهير من جهة و برامج السلطة من جهة اخرى . و قد أفترض أن يتم التعاون و التكامل بين القيادات الجديدة المعينة من قبل السلطة الجديدة و التنظيم السياسي ( الإتحاد الإشتراكي ) لتحقيق تنمية إقتصادية و إجتماعية و سياسية على نحو سريع و فعال ، تشبع الحاجة الملحة للشعب من الخدمات العامة ، و تعطي قوة و دفعا و قبولا للقيادة الجديدة في المجتمع . غير انه و بعد مرور أكثر من سنتين و نصف اكتشف مجلس قيادة الثورة آنذاك عن  قدر كبير من خيبة الأمل و الإمتعاض حيال النتائج التي كان يسعى الى تحقيقها . فالإصلاحات لم تحقق حركة تحديث اجتماعية إقتصادية سياسية سريعة بين صفوف الشعب الليبي و لم تتمكن من تطوير الثقة و القبول و الدعم الشعبي للقيادة الجديدة . بل بقيت القيادة التقليدية والجماهير  المتعاطفة معها مسيطرة على بنية السلطة في المناطق الريفية على وجه الخصوص .
و في خريف عام 1973م ، قرر مجلس قيادة الثورة آنذاك الأخذ باستراتيجية جديدة من خلال منح الشعب السلطة على شؤونه المحلية عن طريق  " اللجان الشعبية " المختارة من قبل الشعب لتعمل على إيجا د و بناء  قياداتها . و كانت النتيجة أن قامت هذه اللجان في الحال بتسريح الغالبية العظمى من القيادات المعينة و إستبدالها بعناصر من النخبة التقليدية .قل تأهيلا علميا أو أكثر تقبلا للتحديث .
و تلى هذه الاستراتيجية خطة عامة لإعادة بناء الإتحاد الإشتراكي من الناحية البنائية وتم  تكوين  روابط و تنظيمات و إتحادات تشمل جميع قطاعات المجتمع و ترتبط بالتنظيم السياسي و الإداري الجديد .
 و بناء على ما تقدم ، فإن هذه الدراسة ترمي الى البحث  عن إحتمالات المشاركة  السياسية الشعبية و معرفة مدى و نوعية المشاركة المطلوبة ، و خصائص الشعب الليبي  و ذلك بهدف دراسة تاثير هذه الخصائص و المكونات على درجة و نوعية المشاركة و نتائجها في مواقفه العامة نحو التغيير و التحديث . كما تهتم هذه الدراسة بتقييم الجماهير للقيادات و البرامج الحكومية ، و نوعية القيادات التي إختارتها في ظل حرية " تامة " و " هادفة " . و تسعى أيضا الى التوصل الى إحتمالات التنمية و التحديث السياسي في المجتمع الليبي .

و يتألف الكتاب من ثمانية فصول على النحو التالي :

-  مقدمة
- الفصل الأول : مناهج و سبل التنمية السياسية
- الفصل الثاني : منهج الدراسة
- الفصل الثالث : البيئة الاجتماعية الإقتصادية السياسية في المجتمع الليبي
- الفصل الرابع : تعزيز السلطة الحكومية : الإصلاح من فوق
- الفصل الخامس : التداخل بين المتغيرات الديموغرافية
- الفصل السادس : مفهوم الشعب للقيادة المحلية و مواقفه منها
- الفصل السابع : موقف الشعب تجاه المشاركة
- الفصل الثامن : الخلاصة و الإستنتاجات
- قائمة المراجع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق